ضحى عاصي لـ"العرب": عضوية البرلمان عرقلت مشروعي الروائي

الأدب الجيد لا يحتاج التلصص والأسرار.
الجمعة 2025/06/27
التجربة السياسية والاجتماعية أضافت لي ككاتبة

الأدب والسياسة عالمان متشابكان رغم التباعد الظاهري بينهما، فالإبداع فعل سياسي في النهاية يتوجه إلى الإنسان فردا ومجموعات، ويعالج كل الجوانب المرتبطة بالحياة شأنه في ذلك شأن السياسة. هناك من الكتاب من اختار جمع العالمين على غرار الأديبة المصرية ضحى عاصي التي كان لـ"العرب" معها هذا الحوار حول عالميها.

القاهرة– خيط رفيع يربط بين الأدب والعمل السياسي، هو الإنسان؛ التعبير عنه، آلامه وأحلامه، والخوض بعمق في قضاياه، لكن ذلك يستلزم أن يكون الأديب جادًّا في كتاباته، والسياسيُّ مخلصًا في عمله ومدافعًا عن مصالح مَن انتخبوه.

تجمع الكاتبة المصرية ضحى عاصي بين الحسنين، فعلى مدى سنوات أصدرت عددًا من الأعمال الأدبية الناجحة، التي لفتت أنظار النقاد والقراء، وتمارس العمل السياسي عضوا في البرلمان المصري، وتخوض معارك وتثير قضايا في مجال الثقافة حفظًا للتراث ودفاعًا عنه.

تماس مع الناس

تمت ترجمتها إلى لغات أجنبية
تمت ترجمتها إلى لغات أجنبية

تكشف ضحى عاصي في حديثها لـ”العرب” عن تأثير عملها كنائبة برلمانية على تجربتها الأدبية، بالإيجاب والسلب معًا، قائلة إن أي تجربة يمر بها الكاتب تُصبح في النهاية معينًا له، ورافدًا يغذّي نظرته إلى الحياة، ويمنحه فهمًا أعمق للبشر ولتعقيدات الواقع.

لم يكن عملها كنائبة تجربة هامشية أو منفصلة، بل تجربة إنسانية كثيفة وضاغطة، وضعتها في تماس مباشر مع الناس، مع تفاصيلهم اليومية، ومعاناتهم وأحلامهم، كما وضعتها في مواجهة مباشرة مع آليات العمل المؤسسي، ودوائر صنع القرار، بما تحمله من تحديات وتناقضات.

وتعتبر الأديبة المصرية أن هذه التجربة السياسية والاجتماعية أضافت لها كثيرًا ككاتبة، من حيث تعدد الطبقات التي تتعامل معها، وعمق التفاعل مع الواقع، ومنحتها الكتابة ميزة إضافية كنائبة، لأنها ساعدتها على التعبير عن مشاعر الناس ومطالبهم بلغة صادقة، وأكثر قربًا من جوهر التجربة الإنسانية، بمنظور أكثر شمولًا وارتباطًا بالبعدين الثقافي والاجتماعي.

ولا تنكر عاصي أن عملها البرلماني، على مستوى الممارسة، التهم كثيرًا من وقتها وجهدها، وعرقل بشكل واضح مشروعها الروائي، قائلة “لديَّ مشاريع متوقفة، وأفكار لم أنجح في استكمالها، وشخصيات روائية تنتظرني منذ سنوات، لكن ضيق الوقت والضغط الذهني لا يسمحان لي بالانغماس الحقيقي في الكتابة، كما كنت أفعل من قبل.”

تسأل “العرب” الكاتبة النائبة عما إذا كان يمكن أن تستفيد في أعمالها الأدبية مما تعرفه من وقائع وأسرار مطبخ السياسة، فتجيب بأن الأدب الحقيقي لا يحتاج إلى هذا النوع من المعرفة التي تُشبهها أحيانًا بالتلصص، فالأدب لا يُكتب من أجل كشف كواليس السياسة، بل من أجل فهم التجربة في أعمق مستوياتها، “الكاتب الجيد لا يحتاج إلى أسرار بل إلى وعي.”

صدرت للأديبة المصرية حديثًا مجموعة قصصية بعنوان “حلق صيني لا ترتديه ماجي” بعد عدد من الروايات وهي “104 القاهرة” و”غيوم فرنسية” و”صباح 19 أغسطس” ومجموعة قصص “سعادة السوبر ماركت”، وتمت ترجمة بعض أعمالها إلى لغات أجنبية.

كل كاتب يكون مهمومًا بشكل أو بآخر بقضايا بعينها
كل كاتب يكون مهمومًا بشكل أو بآخر بقضايا بعينها

وتعتبر ضحى عاصي أن كل كاتب يكون مهمومًا بشكل أو بآخر بقضايا بعينها، ولو لم يُعلن عنها أو يضعها نصب عينيه بشكل مباشر، وتُشكِّل هذه القضايا ما يشبه الخطوط العريضة أو الخيط الخفي الذي يربط بين أعماله، ويظهر أحيانًا دون وعي منه.

وتجد الأديبة المصرية أن قضايا الإنسان تشغلها باستمرار، خصوصًا قضايا المهمَّشين، الذين لا يلتفت إليهم أحد، أو يقفون دائمًا في الخلفية، رغم أن تجاربهم الإنسانية لا تقل عمقًا أو قيمة عن غيرهم، كما تفرض قضية الحرية نفسها على كتاباتها، ليس كمجرد شعار سياسي أو مطلب اجتماعي، بل كمفهوم واسع يشمل حرية التعبير عن الذات، وحرية الاعتقاد، وحرية السعي إلى العمل والحياة الكريمة.

وتحسم قائلة “أرى الحرية حاجة أساسية للإنسان، لا يمكنه أن ينمو أو يبدع أو يحب أو يحيا بحق دونها، لأن هذه القضايا ذات طابع إنساني ولا تقيد الكاتب وتمنحه مساحة واسعة للحركة، إذ تكاد تدخل في كل موضوع أو تجربة أو حكاية. ولا يوجد موضوع في الحياة، من أصغر التفاصيل إلى أكبر القضايا، إلا وله صلة بشكل ما بحرية الإنسان أو مكانته أو كرامته. ولهذا أشعر، وإن تغيرت موضوعات الكتابة أو أزمنتها أو شخصياتها، بأن هذا الهم يظل حاضرًا كصوت داخلي لا يخفت.”

مرحلة مفصلية

لا تنفصل القضايا التي تخوضها عاصي كنائبة برلمانية عن الثقافة بمفهومها الواسع، ومما تفخر به شخصيًا النجاح في وقف مقترح هدم “قصر ثقافة المنصورة” الذي كان من المفترض إزالته ضمن مشروع تطوير شامل للمنطقة، إذ كان هناك تصور لاستبداله بمكان جديد، ربما أكثر حداثة، “لكننا أصررنا على الحفاظ على القصر باعتباره رمزًا ثقافيًا وتراثيًا له مكانته في وجدان الناس، ونجحنا في ذلك.”

وتوضح لـ”العرب” أن المرحلة الحالية تُعد من المراحل المفصلية في حياة مصر، إذ تسعى الدولة بجدية نحو التحديث والتطوير في مختلف المجالات. “وفي هذا السياق كان علينا، نحن المعنيين بقضايا الثقافة والتراث، أن نطرح سؤالًا جوهريًا: أين يقع الحد الفاصل بين ضرورات التحديث وفوائده، وبين الحاجة الملحة للحفاظ على التراث؟”

الخيط الخفي الذي يربط بين أعمالها
الخيط الخفي الذي يربط بين أعمالها

وتضيف أن المسؤولين كثيرًا ما يأتون بمشروعات يرونها من زاويتهم مفيدة، وقد تكون كذلك من حيث البنية والاستثمار، لكنهم قد لا يرون ما يمكن أن تسببه من ضرر على المستوى الثقافي أو التراثي، “وهنا كان دورنا، في البرلمان وخارجه، أن نوضح هذه الأبعاد، وأن ندافع عن كل ما يحمل قيمة معنوية أو رمزية أو تراثية، حتى لا يُمحى دون وعي.”

عملت ضحى عاصي كذلك باهتمام شديد على الدفع نحو إصدار تشريعات خاصة بحماية الملكية الفكرية، والدعوة إلى تأسيس جهاز وطني لحماية هذه الحقوق، وهو ما بدأ يتحقق بالفعل. وترى أن الوقت حان لإعداد قانون جديد شامل لحماية التراث المصري، المادي واللامادي، الثابت والمنقول، لتكون لدينا مظلة قانونية واضحة تضمن صونه واستمراره.

ولا تزال الموضوعات كثيرة، ولا تنتهي، في ظل المتغيرات المتسارعة التي فرضتها الثورة التكنولوجية، التي تجعلنا نفكر دومًا: كيف نحمي تراثنا وذاكرتنا الثقافية في عالم مفتوح لا يتوقف عن التطور، دون أن نعزل أنفسنا عن حركة العلم والتقدم؟

ولدت الأديبة المصرية في محافظة الدقهلية (في شمال القاهرة)، ووالدها الشيخ مصطفى عاصي أحد رموز تيار اليسار المصري، ومن مؤسسي حزب التجمع التقدمي، وسافرت لاستكمال دراستها في الاتحاد السوفييتي سابقًا. وفي روايتها “صباح 19 أغسطس” تناولت التجربة الحضارية والتاريخية الروسية بشكل عميق، والتي كانت دائمًا في نظرها تجربة شديدة الغنى والتعقيد، ومؤثرة بعمق في تشكيل ملامح عالمنا المعاصر.

صدرت حديثًا
صدرت حديثًا

وترى أن الاتحاد السوفييتي لم يكن مجرد كيان سياسي أو جغرافي، بل كان مشروعًا حضاريًا وفكريًا حمل أفكارًا كبرى اجتاحت العالم، وغيرت ملامح القرن العشرين. وكانت الأفكار الشيوعية، بمبادئها عن العدالة الاجتماعية والمساواة ورفض الاستغلال، جاذبة للكثير من الشعوب والمثقفين، في ظل نظم رأسمالية قاسية، واحتلال العالم من قبل القوى الاستعمارية، وما أثارها أكثر هو لحظة الانهيار؛ لحظة سقوط هذا الكيان الضخم من داخله، لا بفعل غزو خارجي، بل نتيجة تآكل داخلي عميق.

طرحتْ هذه التجربة أمامها أسئلة إنسانية وسياسية وفكرية لا حصر لها: كيف يمكن أن تصل أمة إلى حد المطالبة بتفكيك دولتها؟ كيف يتعامل الفرد مع سقوط الدولة التي شكَّلته وشكَّلت وجدانه؟ كيف يواجه، ليس فقط الفقر والانهيار الاقتصادي، بل انهيار منظومة القيم التي تربى عليها؟

وتقول لـ”العرب”: “كنت هناك، في موسكو، في لحظة الانهيار، وعايشت تلك الأيام بكل ما فيها من ارتباك وخوف ودهشة. ولهذا جاءت رواية ‘صباح 19 أغسطس’ محاولة للإمساك بهذه اللحظة، ورصدها كما عشتها، لا كما تم تفسيرها لاحقًا وفقًا لتوجهات سياسية، مع أو ضد. أردتُ أن أكتب من قلب الحدث، من داخل الإنسان العادي الذي وجد نفسه فجأة بلا دولة، وبلا إجابات.”

أنشأت ضحى عاصي في فبراير الماضي “صالون الأربعاء لإبداع المرأة المصرية” في حزب التجمع، كمبادرة تهدف إلى تسليط الضوء على منجز المرأة المصرية في مجالات عدة، ليس فقط في الأدب، بل أيضًا في الفنون التشكيلية والسينما والصحافة، وغيرها من مساحات الإبداع.

ولا تعتبره منصة نقدية تقليدية، إذ لا يتم تقديم قراءات نقدية للأعمال، بل يُفسَح المجال للمبدعات أنفسهن ليقدمن شهادات حية عن تجاربهن، ويتحدثن عن مساراتهن الإبداعية، ويعرضن منجزاتهن كما يرينها هن، من داخل التجربة، ليتحول الصالون بهذا الشكل إلى مساحة للتوثيق والتجميع، وفرصة لكل من يرغب في التعرف على إبداع المرأة المصرية، سواء أكان من المهتمين بالدراسة الأكاديمية أم من المتابعين للشأن الثقافي بشكل عام، فهو بمنزلة أرشيف حي ومتجدد، يعكس التنوع والتعدد في تجربة النساء المصريات في الإبداع.

ولا تنكر عاصي وجود مصطلح “الأدب النسائي” أو “الأدب النسوي”، رغم الجدل الطويل حوله، فهو مصطلح قائم وله دلالات نقدية وفكرية تُناقش في الأوساط الأدبية، لكنها تجزم بأن “صالون الأربعاء” لا يرتبط بهذه التصنيفات أو التوجهات، “إنما هدفنا الأساسي ليس تأكيد مصطلح أو نفيه، بل إتاحة مساحة حرة وآمنة للمرأة المبدعة لتتحدث وتُصغي، وتكون جزءًا من مشهد ثقافي أوسع، يتسع للجميع، دون قوالب أو أحكام جاهزة.”

13