صُنع في حلب

كان استيراد السيارات في سوريا، موقوفاً إلى أجلٍ غير مُسمى. تطلعت العيون وهفت القلوب إلى ورش حلب ومخارط الحدادة فيها. فهي التي تُشكل قطع غيار، تطابق الأصل، لسيارات أميركية صُنعت في الأربعينات، لضمان ألا تشيخ وألا تلفظ أنفاسها. كنا في العام 1968 وكانت البلاد حضناً دافئاً للحالمين الراغبين في جعل الشعار الثوري، خطاً من البذل بالدم في ساح الوغى!
ورش حلب، استأنست بالثقة الغالية التي حازت عليها، فاخترعت مقاربة لتعويض النقص الفادح في شاحنات النقل المتوسطة، بالاستفادة من رخصة استيراد الدرجات النارية الصغيرة، بمحرك 250 سي.سي. كان إعجازا حلبيا، أن يُصنع قفص كقفص الشاحنة، يُثبَّت فيه محرك الدراجة، لكي يتحرك وينقل. القفص نفسه، من صاج لا يخلو من ألوان، ويتولى الخطاطون المبدعون، تزيينه بعبارات التمني من شاكلة: “سيري فعين الله ترعاك” أو تُرسم عين يخترقها سهم، وفي ذيلها عبارة “الحسود لا يسود”.
غير أن المشكلة، نشأت من سوء الاستخدام. فتاجر الماشية، الذي ينقل الذبائح من المسلخ إلى الجزارين في محالهم، لا يتردد في تحميل الشاحنة الحلبية بخمسة عجول مذبوحة، بينما المحرك، صُنع في روسيا أو الصين لكي يحمل فتى نحيلاً وينطلق به. لذا كنا نرى في شوارع دمشق، المركبة المصنوعة في حلب تتحرك ببطء شديد، مُثقلة ومنوءة بحِملها. صوت المحرك والدخان الأسود، الذي ينفثه أنبوب العادم بكثافة، كانا يعلنان على الملأ عن عجز الشاحنة واستغاثتها وضراوة الحال، بينما ضجيج الميغ 17 ودخانها، أثناء مرورها على ارتفاع منخفض، إقلاعا أو هبوطا، فوق حَمورية أو كفر بطنا في ريف دمشق، ظل يملأ الرئتين بأنفاس الأمل، بخلاف ما تفعله شاحنة العجول!
لم يكن أحدٌ معنيا بمقارنة الطائرة، بمنافساتها على الطرف الآخر، فهي تسمو بتحليقها، ولا الشاحنة الحلبية معرضة للهجاء، لأن المشكلة ليست فيها وإنما فيمن أثقلوا عليها. لقد فعل الذين أنتجوها في ورش الحدادة ما يستطيعون. ثم إن الطائرة بدورها، كانت مما أتيح للطيارين. فلا الحَدّاد قَصّر، ولا الطيار خشيَ التحليق، وليس العتب إلا على التحميل الرجيم!
لعل من الأشكال الأخرى للتحميل المُضني، أن تلجأ سلطات بلد بقوة دراجة نارية من عيار 250 سي.سي، إلى البذخ فيتبغدد وجهاؤه على حساب الفقراء. عندئذٍ تصبح السلطات مثل تاجر اللحم الذي يلوث البيئة بالدخان، ويؤذي الصحة، ويعمم الضوضاء، ويطعن في الظهر، أولئك المثابرين في ورش الحدادة!