صيغ روائية شبيهة بأصولها

صناعة النصوص، عمل لا يتعلق فقط بإعداد صيغ قريبة من أصل افتراضي، لم ينشر من قبل، وإنما أيضا بتقديم النص في سياق زمني جديد.
الأربعاء 2020/01/08
هناك روايات كتبها المحررون ونسبت إلى تولستوي

لا نحتاج إلى التساؤل في كل مرة عن حقيقة روايات مضى زمن على ظهورها وانتشارها، هل هي فعلا تلك التي كتبها الروائيون أم أن النصوص صناعة ناشرين؟ فما بدا مهيمنا مع مرور الزمن، هو أن لا حقيقة نهائية للسرديات المنشورة.

قبل سنتين اقتنيت نسخة جديدة من رواية "أنا كارنينا" لليو تولستوي، في أربعمئة وست وخمسين صفحة، تنضاف إلى عشرات الصيغ المنشورة للرواية ذاتها، الأخيرة ترجمها إلى العربية اللبناني إدوار أبوحمرا، ولا تشير الطبعة إلى أي شخص آخر كان له دور في صياغة هذا النص، الذي لا هو بالقصير المصطنع، ولا الطويل الأصلي الذي ظهر في مجلدين في شتى اللغات. في هذا النص المتوسط، لا نقرأ تلك الجملة السحرية التي تكاد تختصر العوالم المأساوية لأنا كارنينا، المتمثلة في تعليق السارد المبدئي "تتشابه العائلات السعيدة، لكن العائلات الشقية لكل منها قصة شقاء فريد".

 يتحدث تولستوي عن هذه الرواية بما هي نتاج جهد مضن، استمر لسنوات، ما بعد إنجاز رواية "الحرب والسلام"، لقد كتبها لتخليد حكاية امرأة أرستقراطية خانت زوجها، لكنه اعتقد، دوما، أنها ضحية، أكثر من كونها مذنبة. ومن ثم فقد شكلت الرواية مجالا لإمعان النظر في هذه الفكرة ومراجعتها، والاشتغال عليها بما هي حاملة لمنظومة قيم ووقائع تاريخية تطلبت عملا ذهنيا ومكتبيا وعضليا منهكا، لكن الحكاية في النهاية يمكن تلخيصها في جملة واحدة، سكنت ذهن تولستوي وخياله "امرأة خائنة انتهت نهاية مثيرة".

في التلخيصات التي نجدها للرواية، يمكن أن نقرأ حكاية منسجمة وشديدة الإغواء لامرأة خائنة انتهت تحت عجلات القطار، لكن تلك النصوص متباينة الطول والأسلوب، لا تحمل توقيع ليو تولستوي، إلا على سبيل المجاز، فالروائي الروسي لم يكتب في الواقع إلا نصا واحدا، هو الممتد في مجلدين، وليست له علاقة بالنصوص الأخرى المشذبة والمختصرة والمقلصة، هذه الأخيرة هي لمحررين مهرة لا توقيع لهم على الغلاف.

صناعة سردية بلا مجد، وباحتمالات لا متناهية، بحيث يمكن في كل مرة اقتراح صيغة جديدة للنص

قبل سنوات، حين صدرت الترجمة العربية للكتاب النثري المعنون بـ“اللاطمأنينة” ذي العمق السردي الاستثنائي للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا، سنكتشف أن النص بصيته الأسطوري لم يكن سوى صناعة نصية لاحقة، لم تكن هنالك صيغة كتابية للنص في حياة المؤلف، كانت ثمة حقيبة تضم أوراقا ومخطوطات شذرات، وصف محتوياتها المهدي أخريف، صاحب الترجمة العربية، بقوله “لقد ترك بيسوا بين أوراقه ملاحظات عديدة بخصوص ترتيب مادة كتاب اللاطمأنينة، لكنها ليست ذات نفع أكيد بسبب بعض التناقضات التي تشوبها، بالنظر إلى التنوع والاختلافات الأسلوبية الكبيرة التي تميز مقاطع ونصوص الكتاب المؤلف على امتداد قرابة ثلاثة وعشرين عاما، وبالنظر كذلك إلى الطبيعة ‘الخام’ لأغلب الكتابات التي يبدو أن بيسوا نفسه اعتبرها كتابات أولية وغير نهائية، بالإضافة إلى أن الوضعية ‘المشوشة’ للعمل ككل تتطلب قدرة خاصة على البناء وإعادة التركيب”.

يمكن أن نتحدث هنا عن صناعة سردية بلا مجد، وباحتمالات لا متناهية، بحيث يمكن في كل مرة اقتراح صيغة جديدة للنص، كما نتخيل أن صاحبه كان سينشره، بحيث نكون مع احتمالات وأحجام وأشكال تركيبية تقدم السردية المثلى في سياقها.

والشيء الأكيد أن مسألة السياق الزمني والثقافي بالغة الأهمية في إدراك الصيغة المحتملة للنص غير المنشور في حياة صاحبه، فالناشر يعيد طباعة النص وفق آخر اجتهادات المؤرخين والمحققين والباحثين في تراث الكاتب، وبالنظر إلى مدى ملاءمة الصيغة المركبة للفهم والتلقي الأدبي المعاصر له. وكثيرة هي النصوص الروائية التي تقترح اجتهادات وتآويل تحريرية لاحقة، لأصل غير مضبوط، ذلك على الأقل ما تنبئنا به الأجزاء الثلاثة الأخيرة من رواية “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، الصادرة بعد وفاة صاحبها، أي ما بين 1923 و1927؛ يتعلق الأمر بالنصوص التالية “السجينة” و“ألبرتين المختفي” و“الزمن المستعاد”، التي خلفها مارسيل بروست في مخطوطات غير نهائية، قام في البداية أخوه روبرت بتنقيحها وضبطها وتقديمها للنشر، قبل أن يعيد الناشرون النظر في نص روبرت في الطبعات اللاحقة محررين النص باجتهادات مختلفة لعل أشهرها ذلك الذي قام جون ييف تاديي وبيير إدمون، وبريان روجيه بإنجازه، وصدر لأول مرة عن دار “لابلياد”. وعليه يمكن الحديث عن طبعات للأجزاء الثلاثة الأخيرة تقدم نصوصا غير متماثلة كليا. بالطبع ثمة القاعدة الأسلوبية المركزية، لكن ثمة أيضا اختلافات بخصوص تراتب المشاهد والحوارات وتفاصيل الوقائع.

صناعة النصوص، إذن، عمل لا يتعلق فقط بإعداد صيغ قريبة من أصل افتراضي، لم ينشر من قبل، وإنما أيضا بتقديم النص في سياق زمني جديد. يمكن أن نتحدث عن عمل شبيه بالترجمة إلى لغة جديدة.

14