صيدلانية من جنوب مصر تصف الدواء لأمراض المجتمع بالأدب

الكتابة نوع من العلاج لا للفرد الكاتب فحسب وإنما أيضا لمجتمعه وللإنسان عموما. الكتابة موجهة إلى الإنسان وبالتالي فهي تهتم بقضاياه وتعالجها من زوايا مختلفة. وفق هذا التوجه تؤلف الكاتبة المصرية علا عبدالمنعم قصصها ورواياتها. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتبة حول رؤاها عن الكتابة والأدب عموما.
القاهرة - “طلقات نارية متتالية أعقبتها متواليات من الزغاريد والأغاني الفاحشة تزامنت مع خروج العريس بمنديله الأبيض وقد تخضب بالدماء”. بهذه البداية الجريئة تنطلق قصة “استعمال طبيب” ضمن المجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم لعلا عبدالمنعم، تحكي حكاية فتاة ريفية أصيبت بحالة من الهياج العصبي في ليلة زفافها ما أدى إلى تخشب جسدها وامتناعها عن التجاوب مع عريسها لإتمام الزفاف بالشكل البدائي القديم، عبر ما يعرف بمنديل البشارة، لإثبات عذرية الفتاة قبل دخول الزوج بها.
الكاتبة المصرية علا عبدالمنعم صاحبة مجموعة “استعمال طبيب”، الصادرة عن دار متون المثقف للنشر والتوزيع، هي روائية وقاصة، تنتمي إلى جنوب مصر، وتناقش عبر ما تكتبه ما تبقى من عادات وتقاليد، لتبدو بحكم عملها كصيدلانية تصف الدواء لأمراض المجتمع بالأدب.
مواقف ونوادر
الكاتبة تناقش عبر ما تكتبه العادات والتقاليد البالية مستفيدة من عملها صيدلانية في نحت بصمة أدبية خاصة بها
تقول عبدالمنعم لـ“العرب” إنها تحب مهنة الصيدلة وترى أن استمرارها في مزاولتها حتى الآن كانت سببا رئيسا لخلق أسلوب مميز خاص بها في كتاباتها، إذ إن تعاملها مع الناس، والنساء خصوصا، شكل حقلا خصبا مليئا بالثمرات، أي الحكايات والحواديت التي استقت منها الكثير من الأفكار وخطوط سير شخصيات رواياتها وقصصها.
تدون علا عبدالمنعم على صفحتها بموقع فيسبوك مواقف ونوادر من عملها في صيدليتها بأسلوب كوميدي ساخر، وكثيرا ما يدعوها أصدقاؤها إلى جمعها في كتاب، إلا أن قصتها مع القراءة والكتابة بدأت مبكرا منذ الطفولة، إذ علمها والدها كيف تقرأ، وذلك بحرصه على شراء الجرائد اليومية ومجلات الأطفال مثل ماجد وميكي وسمير، كما تقول.
وتتذكر زيارتها مع الأسرة لدار المعارف في مصر وشراء قصص المكتبة الخضراء وغيرها من القصص المصورة وكتب التلوين، ما ساعد على امتلاكها حصيلة لغوية ميزتها في كتابة موضوعات التعبير في مادة اللغة العربية، حتى كان المدرسون يعرفون ورقة إجابتها في الامتحانات العامة من أسلوبها وخطها المميزين، وهو ما تطور مع الوقت إلى كتابة المذكرات والخواطر والومضات، وصولا إلى القصة والرواية.
في غرفتها تكومت الفتاة بطلة قصة “استعمال طبيب” وسال كحلها على خديها، بعد امتزاجه بدموعها الساخنة، ما أكسب بشرتها قتامة وكآبة بعد أن كانت وردية متوهجة من أثر الحمرة التي وضعتها لها إحدى قريباتها لتزيينها. وراحت تتداعى على عقلها الأحداث القديمة في حياتها كشريط سينمائي، منذ علاقتها بالطبيب الذي عملت مساعدة له حتى نجاح دخلتها على عريسها وخروجه للحاضرين مبتهجا بمنديل البشارة، دليل إثبات العذرية.
تسأل “العرب” علا عبدالمنعم عن سر هذه الجرأة وإن تكن محمودة، في تناول بعض العادات والأعراف في بيئة الصعيد، وما إذا كان ذلك قد جر عليها المشاكل لاسيما أنها ابنة نفس البيئة، فتقول “أنا نتيجة زواج بين أب من أسيوط (في جنوب مصر) وأم من القاهرة، لكني عشت نصف عمري تقريبا في أسوان (أقصى جنوب مصر) وأكثر ذكرياتي ثراء كانت هناك، وكلنا سمع عن الأعراف والموروثات واستقيناها في بداياتنا الأولى من مشاهد أتت على استحياء في المسلسلات والأفلام القديمة.”
وتتابع “لم يتطوع أحد ليشرحها لنا في نطاق الأسرة، وظلت هذه اللقطات في الذاكرة تبحث عن تفسير لها حتى جاء تأويلها من خلال قراءاتي الروايات التي تناولت الصعيد وعاداته وطقوسه ومشاهدة الأفلام مثل ‘الطوق والإسورة’ و’قفص الحريم’.”
تعتقد أن هذه العادات ربما تكون مستمرة في المناطق التي لم يتوغل التعليم والثقافة فيها، فظلت هذه المناطق على فطرتها القديمة شديدة الحرص على الاحتفاظ بتقاليدها، فكلما زاد الجهل زاد الانغلاق والتمسك بكل ما هو بال بلا قيمة.
وترى عبدالمنعم أن واجبنا جميعا بصفتنا مثقفين التطرق إلى كل ما هو مسكوت عنه من عادات مرفوضة تنتهك الخصوصية والإنسانية وحق الإنسان في ممارسة حياته داخل إطار يخصه لا يشاركه فيه أحد، وهو ما تهدره ممارسات منديل البشارة والختان الذي قد يسبب الوفاة في حالة حدوث نزيف، وما شابه من طقوس عفّى عليها الزمن.
وتوضح لـ“العرب” أن الكتابات الجريئة لم تسبب لها مشاكل في محيطها حتى الآن، قائلة “أنا أكتب كل ما يعن لي بلا أي تحفظات أو خطوط حمراء قد تؤثر على جودة المنتج النهائي.”
حصلت الكاتبة المصرية على جائزة ساقية الصاوي بالقاهرة في القصة القصيرة والقصيرة جدا عام 2013، وصدرت لها روايتان هما “ميراث الأنصاري” و”سوق العايقة”، وشاركت في كتابين مجمعين للقصة القصيرة هما “أوراق لا تشبه بعضها” و”أقلام على الطريق”.
ومضة في العقل
يحدد نوع الموضوع الذي تريد عبدالمنعم أن تكتبه الكيفية التي سيكتب بها، ما إذا كان قصة قصيرة أم رواية، فالقصة القصيرة تساعد الكاتبة في وصف حالة معينة قد تصادفها في وقت محدد تحتاج فيه للتكثيف والتحديد دون إسهاب وإطالة، مثل “ومضة أضاءت في عقلي وأحتاج إلى بلورتها بكلمات قليلة تغني وتسمن من الجوع بلا تخمة”، كما تقول، كأن تتكلم القصة عن مشاعر طفلة صغيرة في الدقائق القليلة التي فقدت فيها أثر والديها على شاطئ البحر، مما تخاف؟ وكيف تتمنى أن يعود الزمن لتظل ممسكة بيد شقيقتها ولا تفلتها أبدا؟ ثم تنتهي بعثور أهلها عليها.
"استعمال طبيب".. مجموعة قصصية تناقش عادات ليلة الزفاف وختان الإناث وغيرها من تقاليد بالية في مصر
أما في الرواية فيمكن أن تتحدث عن الأب والأم وكيف يوفران من أموالهما ليتمكنا من قضاء بعض الأيام على شاطئ البحر، ونحكي فصلا عن بائع الفريسكا ثم المصور، والطفل بائع الكرات القادم من الصعيد، وحياته وأسرته قبل أن يقابل الفتاة الصغيرة ويظل معها ويساعدها في العثور على أسرتها.
تقول الأديبة المصرية “الرواية عالم كبير بكلمات كثيرة، بينما القصة مقتطعة من هذا العالم بالمختصر المفيد، وأعتقد أنني أبلي بلاء حسنا في الاثنين، وأستطيع الاستمرار فيهما معا، وإن كنت أميل للقصة القصيرة رغم صعوبتها.”
تتذكر الفتاة بطلة قصة “استعمال طبيب” كيف نجح طبيب أمراض النساء والتوليد في جذب قلبها إليه، بعد إلحاحه في التقرب منها وكسب ودها، وشيئا فشيئا بدأت تغار من مريضاته اللاتي يشبعهن جميعا نظرات اشتهاء ملتهب خلال الكشف عليهن، حتى وقعت الواقعة، جرى بينهما ما جرى، ولم تعد الفتاة الريفية البريئة بكرا.
وكشفت علا عبدالمنعم لـ“العرب” أنها انتهت من كتابة رواية جديدة منذ شهرين، تتناول قدوم أسرة أرمينية إلى مصر عام 1915 وقرارها البقاء بمصر بعد انتهاء المذابح التي قام بها الأتراك بحق الأرمن، وخط سير حياة ثلاثة أجيال بعد ذلك، من خلال ثلاث سيدات، وصولا إلى ثورة يناير 2011 وتنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن الحكم.
وتناقش الرواية الجذور والانتماء، وكيف تقتلعنا الحياة من جذورنا وترغمنا على أن ننزرع في أرض جديدة، وتظل تراقبنا وتلاحظ كيف نتماهى ونتكيف مع دنيانا الجديدة.
كأن الصيدلانية الأديبة تأبى أن تغادر مهنتها في وصف الأدوية لأمراض المجتمع، على اختلاف أنواع المرض، إذ تتعرض ضمن روايتها الجديدة لمرض خرف الشيخوخة “الزهايمر” الذي عايشته مع حالات اقتربت منها، ورأت كيف ينهش الأسرة بأكملها وليس فقط الشخص المريض، كما اطلعت على الكتابات العلمية حوله، بعد أن بات منتشرا بشدة.
وتصدمنا قصة “استعمال طبيب”، عندما نعلم أن الطبيب الوغد قد قام بطرد بطلة القصة من العمل بعد إقامته علاقة جنسية معها، تاركا لها مظروفا به مبلغ من المال مدون عليه عبارة “مكافأة نهاية الخدمة”، متنكرا لما زرعه في أحشائها، دافعا إياها إلى مواجهة مصيرها المجهول مع أسرتها.
وفي ليلة زفاف البطلة، يبتهج عريسها الجديد بمنديله الأبيض المخضب بدمائها؛ دليل عذريتها، وتنطلق الأغاني الفاحشة والزغاريد، بينما تصفعنا البطلة بكلماتها في النهاية، إذ تقول “كنت أصرخ عند اقتراب زوجي لإتمام دخلتنا ليس خوفا منه أو رهبة، لكنني فقط تذكرت ملمس يد الطبيب الذي يقطن في البيت الضيق والسلم ذي الدرجات المتهالكة في ذلك الشارع المظلم، وابتسامته اللزجة وهو يزرع بداخلي شرفي المستعار”.