"صورة دوريان غراي" مسرحية تصور بورتريه يهرم لبطل لا يكبر

"صورة دوريان غراي" التي شاهدها الجمهور الفرنسي مؤخرا في شكل مسرحية على خشبة مسرح لوريت الباريسي، هي في الأصل رواية لأوسكار وايلد (1854 /1900) الوحيدة، ألفها عام 1890 ونشرها في صيغتها النهائية بعد عام.
تناول أوسكار وايلد في هذه الرواية ثيمات جمالية كالفن والحُسن، ولكنه هوجم بشدة من جهة ميل البطل إلى حياة اللهو والتفسخ، في عهد فكتوري لم يكن المجتمع قد تحرر بعد من القيم السائدة فيه. وكان وايلد مدركا لحساسية الموضوع في مجتمع محافظ، فنبه في مقدمة الكتاب قائلا “أن نقول عن كتاب ما إنه أخلاقي أو لا أخلاقي لا معنى له، الكتاب إنما هو مكتوب بشكل جيّد أو بشكل رديء، فقط”.
موضع مساءلة
أوسكار وايلد، بوصفه أهمّ ممثل للجمالية البريطانية، يستغل روايته ليطرح مفاهيم كبرى ويضعها موضع مساءلة في الوقت ذاته، وقد اعتبر الكثير من النقاد في عصره أن شخصية اللورد هنري ووتّـون، كدانْدي مناصر لمذهب المتعة، هو أوسكار وايلـد نفسه لما عرف عنه من شـذوذ وميل إلى ملـذات الحياة.
والرواية، وإن اتخذت من سلوك دوريان غراي وانحلاله الأخلاقي موضوعا لها، فإن أهميتها الأساس تكمن في رغبة أزلية تسكن الإنسان، ألا وهي رغبة الخلود، لمواجهة الزمن وآثاره على جسد منذور منذ الولادة إلى الفناء.
تبدأ الرواية عندما يلتقي غراي برسام يدعى بازيل هولوارد، ينبهر بجمال الفتى فيقرر أن يرسم له بورتريهات، ومـا إن أتم اللوحة الأولى حتى حضر اللورد هنري ليبعثر مجرى الأشياء، فقد لاحظ لغـراي، المغتر بجماله، أن الجمال لا يدوم، وأن عليـه أن يغنم حاضره قبل أن تَفعل يد الزمن فعلها فيه.
وعندما خلا الفتى إلى نفسه، تطلع إلى اللوحة فهاله ما ينتظره فقال “إنه لأمر محزن! سوف أصبح عجوزا، فظيعا، مرعبا، ولكن هذه اللوحة لن يكون لها يوم أزيد من يوم يونيو هذا..”، عندئذ تمنى لو تهرم الصورة بدلا منه، ويبقى هو في رونقها وجمالها الثابت.
رواية وايلد هوجمت بشدة من جهة ميل بطلها إلى حياة اللهو والتفسخ، في عهد فكتوري لم يتحرر بعد من قيمه السائدة
وعبّر عن ذلك صراحة بقوله “آه لو أبقى شابّا على الدوام ويشيخ البورتريه عوضًا عني! سوف أعطي كلّ شيء، كل شيء من أجل أن يكون الأمر كذلك. أعطي روحي!”. المشكلة أن أمنيته سوف تتحقق بعد أيام، ولكن بعواقب وخيمة، وهو في هذا يذكّر بأسطورة فاوست.
الممثلة سيبيل فين التي يهواها غراي ويَعِدها بالزواج، ثم يطردها لأن أداءها كان رديئا خلال عرض حضره هو وصديقه اللورد هنري، وقف منها موقف اللامبالي حينما علم من الغد بانتحارها، إذ يقول “لا بدّ أن أعترف أن هذا الحدث لم يؤثر فيّ كما ينبغي، يبدو لي أنه انفراج رائع لمسرحية مذهلة، له روعة تراجيديا إغريقية، لي فيها دور بارز، ولكني أخرج منها سليما معافى”. أي أن روح غراي لم تعد روح ذلك الفتى الطيب البريء الذي يشفق على من حوله ويتألم لمصابهم.
جمال وقبح
كانت صورة غراي تزداد قبحا ودمامة فيما كان هو يزداد انحرافا دون أن يفقد جماله وشبابه، من أثر الزمن ومن أثر الخطايا المتعاقبة التي كان يرتكبها، وكان يشاهد تلك الآثار على وجه صورته بالكثير من المتعة.
أهمية الرواية تكمن في رغبة أزلية تسكن الإنسان، رغبة الخلود، لمواجهة الزمن وآثاره على الجسد في جميع مراحله
ولما جاءه بازيل هولوارد معاتبا بسبب ما يروج من أخبار عن سيرته، اتهمه غراي بأنه سبب مصائبه لأنه رسم له تلك الصورة، ثم استبد به غضب فائر فقتل الرسام وتخلص من جثته بمساعدة كيميائي يدعى آلان كامبيل ما لبث أن انتحر هـو الآخر، إلى أن كانت ليلة أراد خلالها البحار جيمس فين قتلـه انتقـامـا لأخته الممثلة، ونجا منه غراي بفضل شبابه الخالد، ولكن ركبه خوف لم يزل عنه إلا حينما علم أن البحار قُتل، عندئذ أراد أن يكفر عن ذنوبه ويغير سيرته لعل صورة اللوحة تتحسن، إلاّ أنها زادت على آثار الخطايا غضونَ نفاق.
اغتاظ غراي وراح يطعن اللوحة لعله يتخلص من ذنوبه، ولكنه كان في الواقع يطعن نفسه. ومن الغد وُجد رجل هرم بشع ميتا أمام اللوحة التي استعادت هيئتها الأولى، حيث يبدو فيها شاب وافر الجمال، بادي البراءة.. وبعد التثبت من خواتم الفقيد، تأكد لمن عثر عليه أن القتيل دوريان غراي.
هذا العمل الأدبي حوله المخرج إيماغو دي فرمبوازييه إلى مسرحية ناجحة لا تزال تعرض في مسارح باريس منذ أربع سنوات، بأداء رائع للممثلين جان باتيست سيو وسونيا سبرديل ودلفين تيلييز وخاصة جوناتان بوتي في دور دوريان غراي.