صلاح الدين دحمون.. نموذج آخر للاتجار بالذاكرة والوطنية من أجل المصالح الضيقة

وزير داخلية جزائري وصف نشطاء حراك 2019 بالعملاء وهو ما عتبروه إساءة للملايين من الجزائريين واستفزازا لمواقفهم.
الأحد 2025/03/16
دحمون سقط  في شراك اتهامات الفساد

صُدم الجزائريون خلال شهر رمضان بأخبار إحالة وزير آخر على السجن، بتهم الفساد واستغلال المنصب من أجل مصالح ضيقة، وكان بالإمكان أن يمرّ الأمر مرور الكرام، في ظل استشراء الفساد في الأوساط الرسمية، لولا أن الوزير نفسه، كان خطيبا فصيحا حول الولاء للوطن، وتوزيع تهم العمالة للاستعمار على نشطاء شاركوا في الحراك الشعبي احتجاجا على قرار تنظيم الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2019، وشبههم بالحراكيين من أبناء الجزائر الذين تعاونوا مع الاستعمار.

أعلن القضاء الجزائري عن إحالة وزير الداخلية والجماعات المحلية السابق صلاح الدين دحمون على السجن المؤقت، بعدما وجهت له تهم الفساد والتلاعب بصفقات عمومية، إلى جانب شخصيات أخرى، أبرزها مدير التشريفات السابق في الرئاسة الجزائرية مختار رقيق، وذلك لحساب أحد المقربين من الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة.

ويأتي القرار كحلقة جديدة من مسلسل الفساد المستشري في البلاد، والذي أفضى إلى سجن عشرات الوجوه الرسمية من رؤساء حكومات، ووزراء ومدراء، ومسؤولين بارزين، وقادة حزبيين، وضباط سامين في مؤسسة الجيش.

◄ اتهام رموز السلطة للمعارضين بالارتباط بأجندات خارجية يهدف إلى تسويق صورة مشوهة للرأي العام عن الناشطين والسياسيين

لكن اللافت في الحلقة الجديدة أن الوزير المتهم كان أحد المستثمرين في ملف التاريخ والذاكرة، وخطاب الوطنية والعمالة للخارج، التي ألحقها بشباب رفضوا إجراء الانتخابات الرئاسية آنذاك خلال ذروة احتجاجات الحراك الشعبي، ولم يتوان في وصفهم، بـ”المنحرفين والمثليين والشواذ والعملاء، الذين نعرفهم واحدا واحدا“.

فجّرت توصيفات وزير الداخلية آنذاك موجة من الغضب والاستياء لدى الشارع الجزائري، لاسيما الناشطين والمؤيدين لمطالب الحراك الشعبي، ولأنه عمّق الفجوة بشكل مثير، لم تتأخر دوائر القرار كثيرا للتضحية به، على أمل احتواء القدر الممكن من فورة الغاضبين، وتمت إقالته من الحكومة.

الإطاحة برؤوس كبيرة

 أطاحت التحقيقات حول ما عرف بـ”إمبراطورية الإعلان العمومي” (الإعلان)، برؤوس كبيرة، كانت تشتغل ضمن شبكة يديرها ابن شقيقة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة، ويتمحور نشاطها حول احتكار وإدارة الإعلان على الألواح الإعلانية المنتصبة في الأماكن العمومية والطرقات، خاصة بالعاصمة وضواحيها.

وقرر قاضي التحقيق لدى غرفة القضايا المالية والاقتصادية بالعاصمة، إيداع وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية صلاح الدين دحمون، ومدير التشريفات السابق برئاسة الجمهورية مختار رقيق الحبس المؤقت، على ذمة تهم في ملف فساد يتعلق بتجاوزات تثبيت وتسويق اللوحات الإعلانية بالعاصمة.

◄ القضاء أحال صلاح الدين دحمون على السجن المؤقت بعدما وجهت له تهم الفساد والتلاعب بصفقات عمومية

وذكرت تقارير محلية بأن “المعنيين توسطا لدى الوالي المنتدب للمقاطعة الإدارية للدار البيضاء، لابن شقيقة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، المالك الحقيقي لشركة متخصصة في إنجاز وتثبيت اللوحات الإعلانية في الشوارع والطرقات، وكذا بيع مساحات إعلانية “.

وأضافت “قاضي التحقيق وجه تهمتي استغلال الوظيفة واستغلال النفوذ لوزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية الأسبق بحكومة بدوي 2019، صلاح الدين دحمون، كما وجه أيضا لمدير التشريفات برئاسة الجمهورية سابقا مختار رقيق، الموجود رهن الحبس على ذمة قضايا أخرى، تهم استغلال الوظيفة واستغلال النفوذ وتبييض الأموال“.

ولفتت إلى أن ابن شقيقة الرئيس الراحل، الفار من العدالة، حصد مليارات الدينارات، من خلال استفادته من عدة صفقات، حيث كانت شركته تحظى بـ “الحصرية” في تسيير وتسويق جميع اللوحات الإعلانية، وكذا تثبيتها على مستوى العديد من ولايات الوطن، خاصة الجزائر العاصمة، منذ العام 2006، رغم أن الشركة مدانة بالمليارات لعدة بلديات في العاصمة، كما أنها لم تكن تدفع المستحقات المالية لولاية الجزائر والمقدّرة بالمليارات أيضا، ناهيك عن التهرب الجبائي إلا أنها رغم ذلك واصلت احتكار كل ما هو إعلاني عبر الشوارع والطرقات الثانوية والسريعة.

توقعت نفس التقارير، بأن “فضيحة الإعلان العمومي”، ستجر العديد من المسؤولين على مستوى البلديات من فئة أمناء عامين ورؤساء وأعضاء المجالس الشعبية البلدية في عاصمة البلاد “بعد أن قام قاضي التحقيق بوضع عدد منهم تحت إجراء الرقابة القضائية“.

وتنتظر هؤلاء، في حال ثبتت التهم، أحكام قاسية تلحقهم بالرعيل المتواجد في مختلف سجون الجمهورية، وتتمثل في “منح الامتيازات والرشوة، ومنح الصفقات بالتراضي، وإبرام عقود مخالفة للأحكام التشريعية والتنظيمية المعمول بها، والاستفادة من تأثير أعوان الهيئات الإدارية، وجنحة المشاركة في تبديد أموال عمومية“.

وعاد توظيف خطاب الوطنية والعمالة للخارج وارتباط المعارضين بأجندات خارجية، من طرف بعض أعوان السلطة، من أجل تسويق صورة مشوهة للرأي العام عن الناشطين والسياسيين للواجهة، طارحا بذلك صدقيته ومشروعيته، والمقارنة بين وفاء أصحابه، وبين أولئك الذين تكال لهم التهم صباح مساء في مختلف الدوائر والمستويات.

الوزير القابع منذ أيام خلف أسوار سجن القليعة، كان قد صرح منذ سنوات قليلة أمام نواب مجلس الأمة (الغرفة العليا للبرلمان) لمناقشة مسودة قانون التنظيم الإقليمي للبلاد، بأن “الاستعمار بالأمس استعمل أولاده في الحرب، ولكن للأسف اليوم هذا الاستعمار أو ما بقي من الاستعمار، وهو فكر استعماري ما زال حيا لدى البعض، يستعمل بعض الأولاد أو أشباه الجزائريين من خونة ومرتزقة وشواذ، نعرفهم واحدا واحدا، ليسوا منا ونحن لسنا منهم“.

◄ سقوط الوزير دحمون، في شراك اتهامات الفساد قد يكشف عن قضية جديدة يأمل الجزائريون أن تكون الأخيرة

وأحدثت النعوت التي وجهها الوزير إلى معارضي الانتخابات الرئاسية آنذاك، موجة غضب واستياء وصدمة كبيرة. وأدانها ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي حيث رأوا فيها إساءة للملايين من الجزائريين واستفزازا لمواقفهم وقدحاً وشكاً في طنيتهم، كما اعتبروها خطابا خطيرا سيزيد من توسيع الهوّة بين داعمي الحراك الشعبي والسلطة.

أجمعت ردود الفعل على أن كلام الوزير يشكل انزلاقا خطيرا، وهو سابقة في تاريخ الجزائر أن يهين وزير شرف المواطنين، وأن الاتهامات التي أطلقها المسؤول على أهم وزارة سيادية بالبلاد، في حق غالبية الشعب المعارض للانتخابات، تعبّر عن احتقار النظام السياسي للمتظاهرين، وأنه هو الوحيد الذي سيحافظ على الثوابت الوطنية.

ولفتت إلى أن التصريح غير مسؤول تماما من وزير داخلية بل استفزاز، وأن خطاب التخوين وإعطاء الدروس في الوطنية للشعب الجزائري قد ولى، خاصة من نظام مرفوض شعبيا.

ورغم أن الواقعة مر عليها نحو ست سنوات، إلا أن الحقيقة التي تكشفت عن وزير الداخلية المذكور، ومجموعة المسؤولين والكوادر التي كانت تشتغل لصالح إمبراطورية الإعلان العمومي، أعادت طرح مشروعية توظيف خطاب الولاء والعمالة في خطاب السلطة، لاسيما من طرف أولئك الناشطين الذين قصدهم في تصريحه، الذين يرون أن الزمن أنصف من يحب وطنه بالمجان، وبين من يحبه من أجل المصالح والمزايا الضيقة.

حاول وزير الداخلية السابق استدراك الخطيئة التي جناها على نفسه، خاصة وأن التوازنات حينها كانت هشة، وكان من السهل جدا أن يجد نفسه خارج أسوار الحكومة، وهو ما حدث فعلا، إلا أن نهايته جاءت لتعيد الاعتبار لمن هاجمهم.

ولم يخلق بيان الاستدراك الذي صدر عن الوزير السابق من تخوين للمحتجين، فقد جاء فيه “نظرا لما بدر من بعض وسائل الإعلام و مواقع التواصل الاجتماعي من تحوير للتصريح الذي أدليت به اليوم بمجلس الأمة ومحاولة لإخراجه من مقصده، أؤكد من خلال هذا المنشور أنني لم أتطرق البتة إلى ما له صلة بالحركة السياسية التي يعيشها بلدنا منذ أشهر، وإنما كان كلامي موجها حصرا لقلة من أشباه الجزائريين من العملاء والخونة وأصحاب الممارسات المشينة الذين تحق بشأنهم كل الأوصاف، والذين عمدوا إلى تدويل الشأن الداخلي لبلدنا في البرلمان الأوروبي ومنظمات غير حكومية ومنحوها فرصة للتدخل في شؤوننا الداخلية السيادية وسمحوا لنواب أجانب بالتطاول على أمورنا“.

ماذا يقول أنصار السلطة

◄ الحراك الاجتماعي أربك السلطة
الحراك الاجتماعي أربك السلطة

استطرد الوزير السابق بالقول “وإذ أستنكر تعمد إخراج تصريحاتي من سياقها ومحاولة إيهام الرأي العام بمحتويات مغلوطة أجدد دعوتي لبنات وأبناء شعبنا الأبي إلى الحيطة لما يحاك ضد وطننا من دسائس وتغليط من قبل بعض الأطراف، التي لا تفوت فرصة من أجل تحويل الرأي الوطني عن الموعد الانتخابي الحاسم الذي ينتظرنا جميعا كما أجدد دعوتي إلى الجميع للعودة إلى التصريح كاملا، قصد التمكن من وضعه في السياق الذي أريد له“.

لكن الحرج الأكبر يقع الآن على عاتق أنصار السلطة، الذين كانوا يبرّرون أيّ موقف أو قرار أو تصريح عنها، وينتقدون الطرف الآخر المتمثل في الحراك الشعبي، لأن الوزير الذي دعموه ودافعوا عنه في شبكات التواصل الاجتماعي، خذلهم ويجدون لاحقا أنه متهم في قضايا فساد استدعت إحالته على السجن في انتظار استكمال مجريات التحقيق في إمبراطورية الإعلان العمومي.

◄ النعوت التي وجهها دحمون إلى معارضي الانتخابات الرئاسية آنذاك، أثارت موجة غضب واستياء وصدمة كبيرة لدى النشطاء

وكان هؤلاء قد انبروا دفاعا عن الوزير صلاح الدين دحمون، واعتبروا ما صرح به “حقيقة يجب أن تقال، وأنه لم يكن يقصد المتظاهرين المعارضين للانتخابات بل أولئك الذين يدعمون التدخل الخارجي في الشأن الجزائري.“

وغرد أحدهم حينها بالقول إن “وزير الداخلية شتم أبناء فرنسا، لماذا يقولون إنه سب الشعب والحراك رغم أن كلامه كان واضحا وموجها لمن استنجد بالتدخل الأجنبي؟، نعم من يستنجد بأيّ مؤسسة ضد جيشه فهو كما قالها الوزير دحمون“.

سقوط الوزير دحمون، في شراك اتهامات الفساد قد يكشف عن قضية جديدة يأمل الجزائريون أن تكون الأخيرة، لأن سمعة النخب الرسمية لم تعد تحتمل المزيد من الخدش والطعن، وأن الخطاب السهل حول الوطنية والعمالة لم يعد معيارا ذا صدقية، فالوقائع أثبتت أن العديد ممن رفعوا شعارات الولاء للوطن، ومحاربة عملاء الاستعمار، هم من يخونون الوطن بممارساتهم، وليس أولئك الذين يحملون رأيا مخالفا للسلطة.

وشهادة وزير الاتصال السابق عبدالعزيز رحابي عن الواقعة تعكس حجم المفارقة، فقد عبر الرجل الذي ارتدى نفس العباءة، عن صدمته بالقول “لقد صدمت وشعرت بالفضيحة” بسبب تصريح وزير الداخلية.. وأن “هذا الانزلاق يصب في خانة الإهانة والابتذال كما يستفز المواطنين ويغذى التطرف في المواقف في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد وبشدة إلى خطاب التهدئة والعقل”، وهي قاعدة ما زلت صالحة إلى حد الآن وإلى وقت أطول.

◄ ازدواجية في الموقف بين شعارات الوطنية وتهم الفساد
ازدواجية في الموقف بين شعارات الوطنية وتهم الفساد

 

7