صفوان داحول سوري مترحّل من غربة داخلية إلى غربة خارجية

إذا كان الرسم محاولة بصرية للقبض على المرئيات في حالات ظهورها المختلفة فإنه قادر بالقوة نفسها أن يعكس مرآته لتصور الداخل الذي تحتضنه النفس البشرية.

شكل عالم الأحلام مصدرا ثريا بتنويعاته لذلك النوع من الرسم بمختلف اتجاهاته. حاول السرياليون أن يحتكروا ذلك العالم غير أنهم لم يفلحوا بعد أن انفتح الرسامون التعبيريون والرمزيون والانطباعيون والواقعيون عليه بعيون ظلت تعتبره مصدرا لأوهامها البصرية.

من تلك الجهة الغنية بالخيال يدخل الرسام السوري صفوان داحول عالم الرسم. لا يحتاج إلى الوصف لأنه لا يرى من بعيد ولا تغريه التفاصيل لكي يروي ما يعيشه من لذائذ بالرغم من أن رسومه لا تقطع الخيط الذي يصل بينها وبين السرد. هناك ما يُروى لكن بتقشف وزهد منضبط. رسوم لا تقع على السطح بل تنبعث منه. داحول يستخرج رسومه بعد أن يتتبع أصوات بطلاتها. فغالبا ما تكون المرأة هي الشكل والجوهر في الوقت نفسه. شهرزاده التي تهب رسومه طابعا سحريا.

داحول والاحتمالات

المرأة هي حارسة كوكبه الذي يتألف من حكايات تخلص إلى الرسم أكثر مما ترغب في استعراض مفرداتها السردية. فهي حكايات يغلب عليها الصمت الذي يؤثره الرسام لكي ينفرد بامرأته الوحيدة التي تظهر باعتبارها دليل الآخرين إليه.

أحيانا تكون اللوحة لها وحدها. مناسبة للغزل. لا يهمه في ذلك إن كان غزله ملونا أو بالأسود والأبيض. تقبض فرشاته من خلال ذلك الغزل على ما يملأ عينيه بالمشاهد الخاطفة التي يحدث مرورها ارتباكا في طريقة النظر إلى العالم. شهرزاده الصامتة تلك يمكنها أن تكون مناسبة للحديث عن امرأة تقضي حياتها وهي تنتظر.

ولو وصفت تلك المرأة حين تحتل الجزء الأكبر من لوحته بالحالمة يكون داحول قد حقق هدفه الذي يعود به إلى فكرته عن الرسم باعتباره نوعا من الحلم. وهو في ذلك إنما يخلص إلى نظريته في “الاحتمالات”.

الرمادي الذي يتستر على الألم

ما من رسام يعترف أنه يرسم حلمه الواحد مرات عديدة من أجل أن يراه في احتمالات متعددة مثلما يفعل داحول. فهو لا يعيد رسم اللوحة الواحدة ولا يكررها بقدر ما يرسم حلمه في لوحات متعددة. تفسير مقنع. بيكاسو وماتيس كانا يفعلان ذلك.

ولد داحول في حماه عام 1961. درس الرسم في مركز سهيل الأحدب للفنون قبل أن يلتحق بكلية الفنون بدمشق لينهي دراسته عام 1983. تابع دراسته العليا في بلجيكا وحصل على شهادة الدكتوراه عام 1997. ثم عمل في تدريس الفن بجامعة دمشق وفي السنوات الأخيرة انتقل إلى دبي ليعمل ويعيش هناك.

أقام عددا كبيرا من المعارض يحمل كل واحد منها عنوان “حلم”. ولو استعرضنا معارضه الأخيرة التي أقامها بعد نشوب الحرب في بلاده لوجدنا ما يلي؛ ثلاثة منها تحمل عنوان “الاستمرار في الحلم”، معرض أقامه في بيروت عام 2011 بعنوان “حلم حقيقي”، معرض أقامه في لندن عام 2014 بعنوان “أحلام مكرورة” وهناك معرض أقامه في دبي عام 2014 حمل عنوان “كأنه حلم”.

في جميع معارضه الحديثة أطلت المرأة بوجه هو أشبه بالقناع. أو هو القناع الذي تحول وجها. أو قناع كأنه الوجه. صار اللعب الحزين في الفراغ بمثابة محاولة لفهم تحولات الحلم ولسرد ما تبقى من الحكاية.

لا تزال المرأة من خلال وجودها الرمزي تشير إلى خصوصية الرسام في لوحته. إنه يفكر من خلالها، لكنه يتذكر وينسى من خلالها. المرأة هي هاويته السحيقة، هناك يقيم أعراسه التي صارت مع استمرار الحرب في بلاده تزداد كآبة. يرسمها بالأبيض والأسود ليحتفي في النهاية بالرمادي الذي يتستر على الألم.   

رسام الزهد التقني

يقول داحول “أحب العمل على الزمن الثابت لا المتغير. ولذلك لا يصبح هما إن كثرت الشخصيات أو قلت. أميل إلى الصورة الفوتوغرافية كمن يفتح ألبوم صور قديمة. أنت ترى فيها الزمن لا الصورة. هذا ما أريد أن أعثر عليه”.

خلاصة يمكن أن تقودنا إلى منطقة يميل فيها الرسم إلى محاكاة وقائع يعتقد الرسام أنها غير قابلة للتغير. أما تحولاتها فإنها تقع داخليا ومن خلال تأثيرها على المشاهد الذي يكون في أحيان كثيرة الرسام نفسه.

الرسام هنا يحاكي الشخص الذي كانه قبل الرسم ليعيد صياغة سردياته التي لم يشرك بها أحدا. يصف داحول لوحاته بأنها سيرة ذاتية. وهي من وجهة نظري سيرة محلقة. يمكن تحسس الطريق من خلالها إلى ما كان الرسام قد نجح أو أخفق في القبض عليه من الوقائع ليضمها إلى ألبومه الشخصي.

ما يسميه الرسام بالصورة هو ذلك المزيج الناتئ من الحسية الخشنة والأنغام الداخلية الناعمة. هناك ما يُرى بقوة تفاعله مع الخارج وهناك ما لا يُرى.

عام 2017 أقام الرسام معرضا بعنوان “منمنمات”. وكما يوحي العنوان فقد كان  المعرض خاصا بالمصغرات. حضرت امرأته باعتبارها مقياسا للزمن. هناك ثلاث لوحات صغيرة نجح الرسام من خلالها في التعبير عن صلة الكائن البشري المباشرة بالزمن، حيث الليل والنهار يتناوبان فيما يأخذ الجسد البشري حصته منهما.

بالنسبة إلى هذا الرسام فإن الصورة تمثل ما تبقى بعد مرور الزمن. إنها جذر الحكاية. وهو ما يعيدنا إلى مصدر الزهد التقني. فإذا كان الرسام قد تمكن من أسر الحكاية كلها بأصباغ قليلة فما حاجته إلى الألوان الأخرى؟ لا يكشف داحول عن ميل إلى الطبيعة. 

هزيمة الغربة

هل يرسم داحول ليهزم غربته أم أنه يفعل ذلك من أجل أن يتماهى مع تلك الغربة؟ كانت الحكاية مختلفة يوم كان الرسم يتوزع بين الاحتمالات. غير أن كل شيء صار مقيدا بأسباب حركته بعد أن صارت الغربة واقعا. لقد غادر داحول دمشق لتتحول هي الأخرى إلى حلم أو ما يشبهه. غربته الوجودية صارت نوعا من الخيال الراعي.

ما هو مهم في تجربة داحول أنها تتغير من داخلها بالرغم من أن الضغوط التي تُمارس عليها كانت تنتمي إلى الخارج. لقد انتهت على سبيل المثال غربته الداخلية أو هكذا نظن لتبدأ غربته الخارجية. إنه غريب بجسده مثلما كان غريبا بروحه.

داحول الذي كان ينصت إلى أصوات الداخل صار ينصت إلى أصوات الخارج ليتعرف على المسافة التي تفصل بينها. لا يزال الفنان يرعى امرأته التي تقيم في الأعماق ولا تظهر منها إلا صورتها التي تغري بالنظر إليها باعتبارها رمزا للحيوية العاطفية التي تشهق أمامها الأرواح.

غربة امرأته اليوم هي مرآة لغربته التي صارت مجسدة. ومثلما تحن تلك المرأة إلى صورتها التي تؤكد وجودها في الزمن فإن داحول يحن إلى دمشق التي يعتقد أن العودة إليها ستنهي غربته. 

داحول اليوم يرسم بقوة الغربة غير أنها غربة لم يألفها من قبل لذلك فإنه يسعى إلى ترويضها من خلال الرسم فهو يرغب في العودة إلى غربته. هناك تكون رسومه أكثر معرفة بالطرق التي تسلكها.

 هو الغريب الذي يسعى إلى التخلص من غربته الخارجية ليعود إلى غربته الداخلية التي هي مصدر إلهامه. هناك تقع تجربته العميقة وهناك أيضا يمكن لامرأته أن تلقي بنظرتها فيكون لتلك النظرة معنى.