صديقي الشاعر السنغالي الذي كان رئيسا!

الرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سيدار سنغور رجل غاص في أوحال السياسة وخرج منها نظيفا بقوة الشعر.


السبت 2021/08/07
الأضواء لم تفارقه باعتباره شاعرا كبيرا

“غالبا ما يعاني الرؤساء المؤبدون من الوحدة” قال لي الرئيس السنغالي ليوبولد سيدار سنغور وترجمها عارف الريس. حدث ذلك عام 1990 ولم يكن سنغور يومها رئيسا. حضر إلى أصيلة المغربية ليكرّم باعتباره شاعرا ومفكرا.

في صباح ذلك اليوم كنت أجلس في مطعم فندق رامبرنت بطنجة حين رأيت الرسام اللبناني عارف الريس الذي سبق لي وأن التقيته قبل سنوات في بغداد ونشأت بيننا صداقة سريعة غير أنها كانت مليئة بالنقاشات. حين أومأت له أقبل عليّ كما لو أنه فارقني منذ لحظات. كان يتذكرني ويتذكر صخب جدلنا. لم يكن يعرف طنجة جيّدا فاقترح علي أن نغادر الفندق لنجلس في أحد مقاهي المدينة.

جلسنا في مقهى فرنسا بشارع باستور. أثناء حديثنا ذكرت أن الرئيس السنغالي يقيم في فندق المنزه قريبا من المقهى، فإذا به ينهض بطريقة مفاجئة ويقول بلهفة “لنذهب إليه. إنه صديقي” استسلمت له وأنا أتوقع مفاجأة من العيار الثقيل. كأن يكون الأمر مجرد مزحة أو أننا لن نتمكن من لقاء الرئيس بيسر.

في أقل من دقيقة كنا في مواجهة موظف الاستقبال الذي ظل ينظر إلينا ببلاهة. طلب منا الانتظار.

وبعد واحدة من أطول الدقائق في حياتي فوجئت بعملاق يقف فوق رؤوسنا. حدثني بالفرنسية فأشرت إلى الريس الذي كان منشغلا بالنظر إلى صورة تشرشل من بين صور الشخصيات العالمية التي سبق وأن أقامت في الفندق.

بعد جملتين قالهما الريس اختفى العملاق ليظهر بعدها سنغور ويتجه مباشرة إلى الريس ويحتضنه. بعدها التفت إليّ وحدثني بالفرنسية ليتولى عارف الترجمة. لم يتوقفا عن الضحك طوال اللقاء.

وازدادت دهشتي حين التفت إليّ الرئيس وهو يقول “يقترح الرئيس علينا أن نلتقي بعد الحفل الرسمي في جناحه هنا. ما رأيك؟” أومأت بالموافقة. وهكذا قضينا ساعات عبر ليلتين في ضيافة الرئيس الذي كان قد غادر الرئاسة يومها منذ عشر سنوات غير أن الأضواء لم تفارقه باعتباره شاعرا كبيرا.

عبر تلك الساعات لم يذكر سنغور أنه كان رئيسا إلا مرة واحدة. حين تحدث عن الوحدة. ضحك حينها وقال “لم أدرك أنني كنت وحيدا إلا بعد أن استيقظت ذات صباح ولم أكن رئيسا”. كنت أفكر في ذلك الرجل الذي غاص في أوحال السياسة وخرج منها نظيفا بقوة الشعر.

ذلك لأنه لم يتخل عن الشعر الذي اعتبره من خلال نظريته في “الزنوجة” عاملا عظيما للحفاظ على اللغة والرقي بها باعتبارها العمود الفقري لوجود كل أمة. عبر ليلتين كان سنغور شاعرا ولم يكن رئيسا غير أنني كلما تذكرت تلك اللقاءات أقول لنفسي “كنت صديقا للرئيس” ولم أقل يوما “كنت صديقا للشاعر”.

الآن فقط قررت أن أرحمه من وحدته وأنظر إليه شاعرا.

24