صديقي الذي اختفى في الزحام

"لا تطرقوا بابي كل هذا الطرق، إني لم أعد أسكن هنا".. العبارة الأشهر للأديب الجزائري مالك حداد، حين اعتزل الكتابة بسبب عدم إتقانه للغة العربية، عبارة طرقت ذهني اليوم حين التقيت بالفنان الفوتوغرافي والسينمائي والتشكيلي التونسي شوقي عزيزي.
شوقي شاب يتقد حماسة وحبا للحياة، أبدع في تصوير البشر والشجر، وآلاف الحشرات والزواحف والطيور والظواهر الطبيعية العجيبة في مدينته “عين دراهم” الواقعة شمال غرب تونس.
كانت الكاميرا عينه الثالثة بل الأولى في ساعات السأم والضيق، لكنه قرر فجأة أن لا يكون فنانا أو أن لا يصفه الآخرون بـ”الفنان” على وجه الدقة والتحديد.
سلّم شوقي كل أوراقه واعتماداته وأوراقه الثبوتية إلى وزارة الثقافة والجهات التابعة لها بالنظر من نقابات وجمعيات وغيرها، مرفقا إياها بطلب إعفائه من وظيفة “فنان” التي يعتبرها وزرا ثقيلا.
السبب بقي غامضا وعصيا على الفهم. حاولت ثنيه عن قراره فما استطعت.
سألت عما يمكن أن يعوضه عن وظيفته ويضمن له الحد الأدنى من حياة كريمة، فقال إنه بصدد الالتحاق بعمل كمسعف في إحدى المستشفيات الخاصة.
شوقي ليس متخصصا في الإسعاف، لكنه قادر على دفع الأسرة والكراسي المتحركة في الممرات برشاقة لافتة كما يبدو من نزقه ورشاقته ونحافة جسمه.. فلقد عاش على مطاردة الفراشات وانتظار استفاقة اليرقات في غابات مدينته الجبلية.
قد يقبل بأي وظيفة أخرى كعد النجوم والطيور والمارة والسيارات، وإنما أن يكون فنانا فهذا أمر بعيد عن رأسه الصغيرة العنيدة التي تختفي تحت قبعة القش أسفل سماء تونس الآيلة للسقوط كما قال.

لماذا يا أبوالشوق؟ كفاك عجرفة و”تمسحة”، وتعال نسند وندعّم أسوار الفن والثقافة قبل أن تجرفنا سيول الردة والانحدار فنتهاوى كالحمقى والأغبياء؟
“لن أشترك في الجريمة” قال شوقي ثم غاب في الزحام.
بحثت عن قبعة قشه ورأسه الصلبة الصغيرة فلم أجدها.
تفهمت مبررات مالك حداد، الملقب بشهيد اللغة العربية، لكني لم ألتمس عذرا لشوقي عزيزي، الذي يتكلم بالصورة وسلاحه الكاميرا.
عدت ونظرت مرتدا إلى نفسي التي هجرت ألق خشبات المسارح دون أي مبرر منطقي، وأمسيت مثل مالك بن الريب، الذي رثا ذاته.
نعم، يحدث ـ ولشدة حساسية الفن ـ أن تهجره في اتجاه الصمت أو التكلم بلغة أخرى، “لكن في النفس سرا لا يعلمه نديم ولا يفضي إليه شراب” كما يقول المتنبي.
أما الأهم من ذلك كله، فهو أن تحلّق يا عزيزي شوقي، الذي فقدته كفنان ولم أفتقده كإنسان، ومنذ ما يقارب المئة عام، قال فلاديمير أيليتش أوليانوف لينين “يحدث أن تنزل النسور وتنخفض إلى ما هو أدنى من الدجاج، لكن الدجاج لن يرتفع أبدا كما تفعل النسور”.