صدى أحلام الحرية في إيران يتردد على خشبة المسرح في باريس

يشتبك الفن المسرحي مع الواقع ويمكنه أن يحدث التأثير العميق بما هو دعوة مستمرة للوعي وبالتالي التحرر، ولعل المسرح كان ولا يزال الفن الأبرز في مواجهة الدكتاتوريات والقمع من خلال خطاباته التي تلامس الواقع وتعيد تشكيله بشكل يجمع الخطاب بالصورة وفي التقائهما قوة تأثير كبيرة، وهذا تماما ما حصل مع المسرحية الإيرانية “دمى فارسية” التي لا تخشى من نبش التاريخ.
باريس - عندما كتبت عائدة أصغر زاده عام 2018 مسرحية "دمى فارسية" المستوحاة من قصة والديها المنفيين في فرنسا بسبب الثورة الإيرانية، لم تكن تتخيل أن هذا العمل سيكون له صدى خاص بعد أربع سنوات.
واقتبست الكاتبة المسرحية من واقع أفراد عائلتها اللاجئة إلى باريس وظروف هجرتهم والمتاعب التي واجهوها بينما ظل يلاحقهم الإحساس بالفشل، خاصة مع ما آلت إليه الثورة الإيرانية وانحرافها إلى وضع مختلف عما حلموا به من حرية وعدالة.
الاستلهام من الواقع
منذ اندلاع الاحتجاجات إثر وفاة الشابة مهسا أميني منتصف سبتمبر أثناء اعتقالها لدى الشرطة الإيرانية بتهمة مخالفة قواعد اللباس الصارمة في البلاد، لم تعد المخرجة والمؤلفة الفرنسية - الإيرانية البالغة 35 عاما، تنظر بالطريقة نفسها إلى مسرحيتها التي حققت نجاحا في مهرجان “أوف أفينيون” الفرنسي خلال الصيف الماضي، وتُعرض حاليا على خشبة “تياتر دي بيلييه باريزيان” في العاصمة الفرنسية.
تحمل مسرحية “الدمى الفارسية” توقيع المخرج ريجيس فاليه، وهي مستوحاة من قصة والدي عائدة أصغر زاده اللذين كانا ملتزمين سياسيا ضد الشاه محمد رضا بهلوي، قبل الفرار من البلاد عقب الثورة الإسلامية.
وتشكل المسرحية قصة فشل، لكنها أيضا تكريم لوالدي أصغر زاده. وتقول الكاتبة المولودة في فرنسا “أكبر مصدر أسف لهما هو أنهما أرادا شيئاً ولم ينجحا في الحصول عليه، أو حصلا على ما هو أسوأ. لقد عاشا شكلا من أشكال العار لفترة طويلة". وتضيف "عندما كنت صغيرة، أتذكر أنني لم أفهم سبب استمرار والديّ في قول ‘فشلنا‘؛ لم يشرحا لي ذلك".

وتنبش المسرحية في التاريخ بجرأة وبلا خوف من كشف مواطن الفشل أو الأخطاء الماضية أو لحظات التقهقر والانهيارات التي عاشها الحالمون بالحرية ومآلات الثورة التي حولتهم إلى هاربين ولاجئين.
تنفيس وجداني
في المسرحية، تتخيل أصغر زاده قصة مختلفة قليلا، عن اثنين من الأزواج الجامعيين يتوقان إلى تغيير النظام في السبعينات. وينتهي الأمر بزوجين من هؤلاء إلى الانفصال بصورة قسرية، مع زج الرجل في السجن لسنوات، وهروب زوجته إلى فرنسا مع ابنتها وابنة صديقة تربيها على أنها ابنتها. تتوالى المشاهد الواحد تلو الآخر مع ذكريات من الماضي بين إيران في ذلك الوقت وفرنسا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وتقول المؤلفة التي يزخر سجلها بأعمال كثيرة بينها "La Main de Leila" التي شاركت في كتابتها ورُشحت لجوائز موليير، أبرز المكافآت المسرحية في فرنسا، "عندما قرأ والداي النص لأول مرة، شعرا بأنه بعيد منهما، شكّل ذلك صدمة لهما في مكان ما وكانا بحاجة إلى تلقفه". وتضيف "ثم عندما شاهدا العمل لأول مرة على خشبة المسرح، تأثرا بشدة.. لم أر والدي يوما من قبل يبكي بهذه الطريقة، لقد غاصا مجددا في الذكريات".
في إيران، كان والدها مطلوبا للسلطات، وكان يغير مكان سكنه باستمرار. ونجح مع والدتها في الفرار بصعوبة عبر محافظة كردستان الإيرانية بفضل مهرّب. وتقول "لقد ترددا في اصطحاب أختي، التي كانت تبلغ آنذاك أربع سنوات، وكانا مقتنعين بأنهما سيعودان بعد بضعة أسابيع".
وتوضح أصغر زاده "عندما شاهدَت والدتي المسرحية مجددا، أخبرتني أنها شعرت كما لو أن العمل قد نظف العار، بما يشبه التنفيس الوجداني". وتؤدي أصغر زاده شخصيتين، إحداهما قريبة من شخصية والدتها، وهي مدرّسة ظهرت في البداية مكشوفة الذراعين، قبل أن تضع الحجاب.
عمل وطني
تقول أصغر زاده “يفاجَأ الجمهور على الفور بهذا الاختلاف الذي يلخص ما يحصل اليوم: تتظاهر النساء من أجل حرية اختيار ارتداء الحجاب أو عدمه من دون أي فرض". وتبدي تأثرها وافتخارها بهذه الفئة السكانية التي "تجازف بحياتها كل يوم"، وتؤكد، رغم "الخوف من فشل جديد"، أن لديها أملا لأنّ "هذه الثورة تأخذ أبعادا أكبر من تلك التي سبقتها".
وتقول إنها كانت على علاقة "مضطربة" مع إيران خلال طفولتها. وتوضح "عندما كنت في المدرسة، أردت أن أكون فرنسية، رغم أني كنت أتحدث الفارسية؛ في ما بعد، عندما أدركت ما حدث لوالدي، شعرت بالخجل من الشعور بالخجل".
وتختم قائلة "بهذه المسرحية أشعر بأنني إيرانية أكثر من أي وقت مضى، كما لو أني أخت هاتيك النساء" المتظاهرات. كما هو معلوم فإن قائمة الممنوعات والمحرمات في القانون الإيراني كثيرة وهي تستهدف الحد من الحريات الشخصية للمواطنين، وعلى رأسهم الشباب التواقون بطبيعة سنهم إلى الحرية، ولعل الفن أبرز ما يمكن أن يقاوم هذا المنع من خلال نشر الوعي بالحرية والنفس التحرري وإيقاظ الهمم لمواجهة حالات القمع التي تسلطها السلطات على مواطنيها.