"صخب العصر" رواية بريطانية عن موسيقار روسي

كان جوليان بارناس في الخامسة عشرة من عمره، لما قرأ رواية “مدام بوفاري” لفلوبير، فوجد فيها ما أغراه وشجعه على التهام كل روايات صاحبها. بعد زمن من ذلك، وتحديدا في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، أصدر جوليان بارناس روايته الأولى “ببغاء فلوبير”، التي حققت له شهرة واسعة لا في بلاده فقط بل في العديد من البلدان الأوروبية الأخرى. وفي فرنسا نالت هذه الرواية جائزة “ميديسيس” المرموقة. ولم تحتو رواية “ببغاء فلوبير” على أحداث كثيرة وإنما أرادها جوليان بارناس أن تكون معبرة عن وفائه لـ”معلمه” فلوبير، ودعوة للعودة إلى القدامى الذين تركوا آثارا عظيمة.
وفي روايته الجديدة “صخب العصر” الصادرة مؤخرا في ترجمة فرنسية عن دار “ماركور دو فرانس” ضمن سلسلة “المكتبة العالمية”، يسافر بنا جوليان بارناس بعيدا في الزمان والمكان ليأخذنا إلى روسيا السوفييتية وتحديدا إلى سنوات الرعب الستاليني، التي كانت بمثابة الجحيم بالنسبة إلى المثقفين والكتاب والفنانين.
ويروي لنا بارناس أحداث هذه السنوات من خلال دميتري شوستاكوفيتش الذي يعدّ من أشهر الموسيقيين الروس في القرن العشرين ومن أكثرهم شهرة على المستوى العالمي. وقد ولد هذا الموسيقار الذي ينتمي إلى عائلة مثقفة، اعتقل بعض أفرادها في معسكرات سيبيريا بسبب مناهضتهم للنظام القيصري، في مدينة سانت بطرسبورغ في العام 1906. وما إن بلغ سنّ العشرين حتى أصبح معروفا في الأوساط الفنية والموسيقية في كامل أنحاء روسيا السوفييتية.
وفي العام 1934 قدم مكسيم غوركي الخطوط العريضة لما أصبح يسمّى بـ”الواقعية الاشتراكية” فرحب بها العديد من الكتاب والشعراء والفنانين. لكن رفضها الكثيرون مثل أوسيب ماندلشتام وأنّا أخماتوفا وبولغاكوف، متحدين بذلك أجهزة الإرهاب الستاليني، وبسبب ذلك، سلطت عليهم عقوبات قاسية. فقد توفي ماندلشتام من الجوع والبرد في معسكرات سيبيريا عام 1938، ومنعت أنا أخماتوفا التي نعتها ستالين بـ”عاهرة الشعراء” من نشر أشعارها. أما الشاعرة ماريانا تسفيتيافا فقد فضلت الانتحار عام 1941 بعد أن تحولت حياتها إلى سلسلة من الأوجاع والمآسي الأليمة.
ويعتقد دميتري شوستاكوفيتش أن الموسيقى يمكن أن “تقول ما لا ترغب الأذن المعادية في سماعه”. لذلك واصل تقديم حفلاته الموسيقية في موسكو وفي بقية المدن الروسية الأخرى، غير أن الرقابة لم تكن غافلة عنه. وفي حفل موسيقي كبير احتضنه مسرح “البولشي” عام 1936 وحضره ستالين وكبار شخصيات الحزب الشيوعي البلشفي، قدم دميتري شوستاكوفيتش “أوبرا الليدي ماكبث”. وفي اليوم التالي نشرت صحيفة “البرافدا” مقالا ينتقد بحدّة “سلبية” هذه الأوبرا، وفيه يقول كاتبه إن “الفوضى عوضت الموسيقى في هذه الأوبرا التي لم تكن غير ضجيج ونباح وصرير”. وكان ذلك المقال إدانة لدميتري ويصنفه ضمن “المثقفين البورجوازيين الصغار الذين يفضلون العيش خارج الواقع والتاريخ”.
وعلى مدى سنوات طويلة عاش دميتري الإقصاء والخوف والتهميش، ولم يعد له شيء من الاعتبار إلا بعد ذوبان الجليد الستاليني في الستينات من القرن الماضي. وقبل وفاته في موسكو عام 1975 قام دميتري شوستاكوفيتش بجولة شملت البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية قدم خلالها حفلات موسيقية حققت له شهرة عالمية واسعة.
ويتطرق الكاتب إلى ساعات الرعب التي عاشها دميتري شوستاكوفيتش الذي كان يخشى دائما أن يأتوه في قلب الليل. ويُجَرّ خارج بيته في بيجاما، ويجبر على ارتداء ثيابه على عجل أمام ميليشيّ هادئ، مُظهرا احتقاره له، فذهب إلى الفراش بكامل ثيابه. ونام نوما متقطعا، متصورا أفظع الأشياء. وخوفه كان يمنع نيتا من النوم هي أيضا. كل واحد منهما يظهر أنه نائم لكي يخفي خوفه عن الآخر. ومن كوابيس اليقظة الملحة هو أن تأتي المخابرات لتأخذ غاليا وتحملها -إذا ما أسعفها الحظ- إلى مأوى لليتامى خاص بأبناء أعداء الدولة.عندئذ سوف يعطونها اسما آخر، وسيصنعون منها مواطنة سوفييتية جديدة نموذجية -زهرة عباد شمس صغيرة رافعة وجهها باتجاه شمس كبيرة هي ستالين”.