صاحب الدراجة

لم يفقد علاء مشذوب توازنه على دراجته المتواضعة، فقد كان ينساب في حركته مثل فراشة تتبع رائحة عطر الزهور، بيد أن عدوه هو من كان يتأرجح بفعل كتاباته التي نثر فيها أكثر ما ينبغي له من الحب في مكان واحد.
السبت 2019/02/09
مات علاء مشذوب وهو يكتب قصته الأخيرة على دراجة صاعدة إلى السماء

تعجبني كثيرا موظفة البريد في حيّنا اللندني وهي تأتي على دراجتها كل صباح، تحمل بريدنا اليومي في وقت محدد لا تتأخر عنه ولا تتقدم. صاحبة الدراجة الهوائية الأنيقة التي تحتفظ دائما بتوازنها بخفة طائر كما تحافظ على ظفيرتها وهندامها وبدلة البريد الرسمية. تطير بدراجتها وهي تنثر ابتسامة تفاؤل على صباحات كائنات الشارع، فتنتقل عدوى النشاط والتفاؤل للجميع.. ابتسامتها التي لم تكدرها يوما الأحوال الجوية المتقلبة.. لا المطر ولا الثلج والصعيق.

تذكرتها اليوم وأنا أطالع بذهول صورة الروائي العراقي د. علاء مشذوب، وهو يترجّل عن دراجته الهوائية بعد تلقيه 13 رصاصة من مجهولين، أردته قتيلا في مشهد غريب تنحرف فيه الدراجة عن مسارها في زقاق ضيق بينما بدا فيه جسده ملتفا حول أذرع الدراجة.. أو هكذا خيّل إليّ وأنا أرى نهرا رفيعا من دمائه التي صبغت إسفلت دربونة ضيقة في مدينة كربلاء، كان يتخذها طريقا إلى منزله.

كان الأديب والأكاديمي المجتهد مشذوب، عائدا إلى منزله مساء بعد مشاركته في نشاط ثقافي على متن دراجة هوائية، قبل أن يُقدم عدد من المجهولين على اغتياله بـ13 رصاصة متتالية سكنت جسده جميعها من دون تردد، وكأنها لعنات طاردته في كابوس بعيد؛ لعنات كانت تحمل اسمه وطريقة موته في مكان وزمان محددين.

لم ألتق صاحب الدراجة يوما لكني أعرف جيدا كربلاء الحسين مدينة القباب الذهبية؛ المدينة والجدران، الأضرحة والمزارات، الأسواق والخانات، البساتين والمآذن العالية. المدينة التي سكنها وسكنته، ودوّن فيها ولها كتاباته في يومياته التي كنت أصادفها أحيانا على حائطه في الفيسبوك.. كما يرسم المتعبد الورع ابتهالاته على خيوط المسبحة، سبح بحمده على نعمة المدينة والوطن والبيت والشارع الآمن، فكان يقول “… صباحكم كربلاء قدس الأرض والسماء.. صباحكم كربلاء بوصلة التائهين.. صباح الأزقة والشوارع الفرعية لمدينة لم تنعم بالاستقرار أبدا.. كربلاء حكاية لا تنتهي..”.

هكذا كان يرى صباحاته، لكنّ مساء واحدا وأخيرا هو الذي باغت أحلامه ورسم نهاية لحروف لم يكتبها، فلم يتفضل منه سوى جسد ممدد على شارع ضيق لم يعد ملكا له.. فقد استولت عليه أيادي الغرباء وما أكثرهم في هذا البد الذي لم يعد آمنا.

يحب الناس منذ القدم استخدام الدراجات كوسيلة مواصلات غير مكلفة، وتوجد قرابة بليون دراجة هوائية على مستوى العالم كله، متفوّقة بذلك على عدد السيّارات. تملك الدراجة بطبيعة تكوينها، القليل أو حصة معدومة من الاستقرار الجانبي في حالة الثبوت، فمواصلتها التأرجح والانسياب المتوازن في أثناء الحركة هي ما تصنع عنصر الأمان فيها.. مدهش هذا الأمر؛ فكيف تكون الحركة والانطلاق والتمرجح والضجيج والمضي قدما عناصر أمان واستقرار؟

لم يفقد علاء مشذوب توازنه على دراجته المتواضعة، فقد كان ينساب في حركته مثل فراشة تتبع رائحة عطر الزهور، بيد أن عدوه هو من كان يتأرجح بفعل كتاباته التي نثر فيها أكثر ما ينبغي له من الحب في مكان واحد.

صورته لحظة وفاته.. لا تشبه الصور المزعجة التي تنشر عادة في وسائل التواصل الاجتماعي، بعد حوادث التفجير أو القتل العشوائي لضحايا آخرين، كانت صورته أشبه بقصة أخيرة لم يتسن له كتابتها.. فترك الأمر للصدفة.. صدفة بلباس الموت.. مات مشذوب وهو يكتب قصته الأخيرة على دراجة صاعدة إلى السماء!

21