شهداء العلم

أكثر ما كان يميز “تونسنا” في السابق أنها دولة لطالما راهنت على العلم والتعلم، لم يرض أغلب قادتها يوما بالجهل ولم يساعدوا على تفشيه بين أفراد المجتمع، بل سعى أغلبهم لنشر العلم والتشجيع عليه بشتى السبل الممكنة، حتى أصبحت تونس رائدة وسباقة مقارنة بغيرها من الدول العربية. ولنسائها كان أيضا نصيب كبير من العلم حيث جعلت منهن تونس أول نساء يتعلمن ويتقلدن مناصب مهنية مهمة مقارنة ببنات جنسهن في المنطقة العربية.
لقد كانت مسألة تطوير التعليم من أهم مشاغل النخب السياسية في تونس قبل الاحتلال الفرنسي. إذ تمّ إنشاء أول مدرسة حديثة، وهي المدرسة الحربية عام 1840، التي اعتمدت تدريس العلوم كالهندسة والمساحة والحساب واللغات الأجنبية إلى جانب مواد بالعربية، ثم تأسست المدرسة الصادقية عام 1875 التي اهتمت بدورها بتدريس المواد العلمية واللّغات.
كما عرف التعليم الزيتوني التقليدي بدوره محاولات للإصلاح، وعزز مكانة جامعة الزيتونة التي لعبت على مدار قرون من تأسيسها (حوالي 737م) دورا مهما في نشر العلم والثقافة، ليس فقط في تونس بل في جميع أنحاء شمال أفريقيا. وقد تخرج منها العديد من العلماء والمفكرين الذين كان لهم تأثير كبير في مجالات الفقه الإسلامي والعلوم الاجتماعية والسياسية.
وبعد الاستعمار الفرنسي سنة 1881، اعتبرت النخبة المثقفة متمثلة في الحركات الوطنية التحررية قضية التعليم قضية مركزية وناضلت من أجل تطوير مناهجه وتعميمه وجعله حقا اجتماعيا لعموم التونسيين.
وإثر استقلال الدولة عام 1956، أصبح التعليم واحدا من بين أهم رهانات الدولة الجديدة، حيث اهتم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بشكل كبير بتطوير التعليم في تونس واعتبره أداة أساسية لتحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي. وفور وصوله إلى السلطة عام 1956، أطلق سلسلة من الإصلاحات التي هدفت إلى تحديث وتوسيع النظام التعليمي في البلاد. من أبرزها إلغاء الأمية وإقرار التعليم المجاني والإجباري لجميع الأطفال، وهو ما ساهم في زيادة نسبة التلاميذ في المدارس من 18 في المئة إلى 70 في المئة في فترة قصيرة، إلى جانب تعليم الفتيات وتعميم الاختلاط في جميع المؤسّسات التعليمية منذ سنة 1968 وحذف التعليم الديني واعتماد منهج تعليميّ منفتح على اللغة والثقافة الفرنسيتين مع الحفاظ على اللغة العربية، وبالتوازي مع ذلك عملت الدولة على بناء المدارس والمعاهد في المدن وخاصّة في الأرياف. ولتحقيق كل ذلك، تمّ رصد ما بين خمس وثلث الميزانية العامة للدولة للقطاع التعليمي.
لكن ما الذي حصل لتتراجع تونس في ترتيب نسب الدول المهتمة بالتعليم والمتفوقة في هذا المجال؟ ما الذي حول المدرسة من صرح للعلم والمعرفة إلى صرح للموت والعنف؟
أطرح هذه التساؤلات بعد أن رأيت كما رأى أبناء بلادي كيف شهدت مدينة المزونة في محافظة سيدي بوزيد، وسط تونس، حادثا مأساويا، أسفر عن وفاة 3 تلاميذ وإصابة آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، وذلك إثر انهيار جدار المعهد الثانوي الذي كانوا يدرسون فيه. وكيف توالت علينا الأخبار خلال السنوات القليلة الماضية عن تبادل للعنف داخل المؤسسات التعليمية التي تحولت من صرح لطلب العلم إلى مكان لتعلم “البلطجة” والعراك والسباب والشتم.
يبدو أن التعليم في تونس يشهد غيبوبة طويلة، فمنذ هل علينا الربيع العربي بثوراته المدمرة، لم نشهد تطورا ملحوظا في المنشآت التعليمية ولا سياسات واضحة لاستكمال ما بدأه مؤسسو الجمهورية الحديثة، وإن كانت نتائج الغيبوبة لم تظهر سريعا على عقول الأجيال، إلا أن الحيطان بدأت تهتز وتنهار، معلنة عن حاجة ملحة إلى التجديد. لكن من أين لنا بإرادة قوية وواضحة تفرض نظاما تعليميا جديدا يتماشى مع متطلبات العصر، وتراهن على مؤسسات حديثة، تؤسس حيطان الأمل ولا تهدمها فوق رؤوس أبنائنا.