شهادة المواطن وشهادة البنك الدولي حول اقتصاد الجزائر

ظهر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون في احتفالية أفضل مصدر مزهوا بحصيلة عهدته الاقتصادية، ومستدلا ببيانات البنك الدولي الذي أطلق رسائل إيجابية عن الوضع الاقتصادي للبلاد. لكن المواطن أو العائلة التي عجزت عن توفير أضحية العيد لأفرادها بسبب عدم القدرة على شرائها، في حيرة بين الواقع الذي يعيشانه وبين الخطاب المتفائل الذي تردده دوائر السلطة.
تحدث الرجل الأول في الدولة عن نسبة النمو الاستثنائية المحققة في بلاده، وتراجع مؤشر التضخم، وعن ارتفاع الصادرات خارج المحروقات، والناتج الداخلي الخام في غضون السنوات القليلة القادمة، وتوقع نتائج أخرى إيجابية بعد عامين، وهي كلها مؤشرات تحدث عنها تقرير البنك الدولي.
لكن عندما تسأل أحيانا جزائريين بسطاء عن هذه الصورة الوردية، تلقى ردا متشائما: “وأنا ما دخلي يرتفع احتياطي الصرف أو ينخفض، ترتفع أسعار النفط أو تنخفض، يرتفع الناتج الداخلي الخام أو ينخفض.. ما يهمني هو القفة التي أدخل بها إلى البيت، هل تلبي حاجيات الأسرة أم لا”.
أكبر شهادة يمكن أن تعتز بها الحكومة الجزائرية في خطاباتها الاقتصادية والاجتماعية، هي شهادة مواطنها عندما يرضى عن أدائها ويلمس التحسن في مستوى معيشته اليومية، وحتى عندما تصارحه بالحقائق مهما كانت مرارتها
على هذا الجهل بتفاصيل الاقتصاد، وحتى عدم الحاجة إلى معرفتها أصلا، تتجلى مفارقة عدم التطابق بين بيانات الاقتصاد الكلي والاقتصاد الجزئي؛ فمهما كانت التقارير المقدمة من طرف الحكومة أو الهيئات الدولية إيجابية، فإن المواطن البسيط له مسطرة واحدة ووحيدة هي وضعه الاجتماعي والاقتصادي وقدرته على العيش الكريم وتلبية حاجيات الأسرة.
لقد تحدث البنك الدولي عن انتقال الجزائر من الدخل المتوسط الأدنى إلى الدخل المتوسط الأعلى، وقال إن الانتقال انعكاس لحزمة الإجراءات المتخذة من طرف الحكومة لرفع الرواتب ومعاشات التقاعد والمنح الاجتماعية، على أمل ردم نسبي للفجوة التي خلفتها أزمة انهيار أسعار النفط بداية من صيف عام 2014، لكن ماذا يمثل ذلك كمؤشر إداري، بالنسبة إلى مواطن لفحته نار الأسعار، إلى درجة أن راتبه لم يعد يغطي إلا ربع أو ثلث الشهر.
وفوق ذلك لم يستفد عمال القطاع الخاص من الزيادات التي مست العاملين في قطاع الوظيفة العمومية في التعليم والصحة والإدارة، وفي جميع الحالات فإن مصدر تغطيتها هو عائدات النفط والغاز، وأبسط متابع يتساءل: كيف سيكون الوضع إذا انهارت تلك العوائد لسبب من الأسباب، كإيجاد تسوية للأزمة الأوكرانية وعودة الغاز الروسي ورفع الحصار عن إيران وعودة ليبيا بإمكانياتها إلى أسواق الطاقة.
تتحدث الحكومة منذ العام 2022 عن ارتفاع الدخل خارج المحروقات إلى سبعة مليارات دولار، والرقم نفسه كرره الرئيس تبون، وعن رفعها إلى سقف 13 مليار دولار قريبا، وإلى 30 مليار دولار في غضون العام 2030، لكن لا أحد من المسؤولين فصل للشارع الجزائري كيفية ذلك، وحتى جدوى ذلك على حياته الخاصة.
الناقمون على الوضع، والبعيدون عن لغة البيانات، غير متحمسين لما يتردد سواء من طرف البنك الدولي أو من طرف السلطة، وحجتهم في ذلك أن حياتهم لم تتغير منذ أن كان سعر النفط ثمانية دولارات في ثمانينات القرن الماضي، إلى أن وصل إلى 140 دولارا خلال السنوات الماضية، ولذلك يدرجون الخطاب في خانة “جزائر نشرة الثامنة”، وهي النشرة الإخبارية للتلفزيون الحكومي التي تبث تقارير وردية تعطي الانطباع لهؤلاء بأنها تتحدث عن بلد وشعب آخر، غير بلدهم وشعبهم الذي يعرفونه.
الناقمون على الوضع، والبعيدون عن لغة البيانات، غير متحمسين لما يتردد سواء من طرف البنك الدولي أو من طرف السلطة، وحجتهم في ذلك أن حياتهم لم تتغير منذ أن كان سعر النفط ثمانية دولارات في ثمانينات القرن الماضي
البنك الدولي الذي تحتفي به وسائل الإعلام المحلية والدوائر الرسمية الآن هو نفسه الذي شنت ضده حملة واسعة عام 2021، عندما أصدر تقريرا سلبيا حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، وهو ما يطرح انتقائية رسمية في التعاطي معه، ويحيل إلى تحكم الحسابات السياسية في التعامل مع تقارير الهيئات المالية الدولية، فتكون مرجعا إذا جاءت إيجابية، ومغرضة إذا حملت رؤية سلبية.
ولذلك فإن الجزائر إذا أرادت تعديل نظرتها للهيئات المذكورة يتوجب عليها أخذ التقارير الصادرة عنها بحلوها ومرّها، أو تركها مهما كانت، لأن ما يهمها هو النهوض بالاقتصاد وتحقيق الرفاه لمواطنيها. فالتوظيف السياسي لطبيعة تلك التقارير حشر السلطة إما في حالة رد الفعل ونظرية المؤامرة والعمل المغرض، أو في حالة الثناء على نفسها بدل أن يثني عليها مواطنوها، والاستدلال بتلك التقارير بغرض تحقيق غاية سياسية في الأفق.
إن أكبر شهادة يمكن أن تعتز بها الحكومة الجزائرية في خطاباتها الاقتصادية والاجتماعية، هي شهادة مواطنها عندما يرضى عن أدائها ويلمس التحسن في مستوى معيشته اليومية، وحتى عندما تصارحه بالحقائق مهما كانت مرارتها، حينها فقط تكتشف معدن وأصالة ذلك المواطن المستعد للتبرع بقليله لخزينة الدولة.
صحيح أن بيانات وتقييمات المؤسسات والهيئات المختصة الإيجابية هي بمثابة كتابة سيرة بلد أمام فرص الاستثمار واستقطاب رؤوس الأموال وربح ثقة الدوائر واللوبيات المؤثرة، لكن ذلك لا يجب أن يغفل الخطاب الحكومي عن الواقع المأزوم الذي انصهرت فيه عدة مفاعيل داخلية وخارجية، وأحدثت الفجوة نفسها رغم المؤشرات المتداولة.
خلال سنوات مضت حملت الحكومة أموال الجزائريين لاستثمارها في مناطق ومصانع أميركية مفلسة، وأقرضت صندوق النقد الدولي خمسة مليارات دولار، لكن ذلك لم يشفع لها ويمنع سقوطها في دوامة الأزمة بداية من عام 2014، وعندما حمل البنك الدولي الآن رؤية إيجابية ويبحث اقتراض مبلغ من الجزائر، لن يكون صديقا للجزائر لو انقلبت عليها الدوائر في المستقبل، ولذلك فإن أصدق وأجدى تقرير يمكن أن يفيد الحكومة هو صوت مواطنها فقط.