شعلة النار التي جلبت المعرفة والشقاء للبشر

قمة المناخ العالمي (كوب 27) التي أسدل الستار عليها في منتجع شرم الشيخ على شواطئ البحر الأحمر أثارت الكثير من الانتقادات، وبالكاد أثارت أي إطراء.
الاتفاق على صرف تعويضات عن أضرار مناخية لحقت بالدول الفقيرة، التي أشير إليها من قبل المؤتمرين بالدول الضعيفة، لم يكن كافيا لتصمت الأصوات التي علت بالنقد، والتي رأت أن “القرار استغل ضحايا اليوم لأزمة المناخ على حساب ضحايا الغد”.
نظريا هذا الكلام صحيح، والسبب واضح، لأن المجتمعين لم يتوصلوا إلى قرارات تضع حدا لاستخدام الوقود الأحفوري، بعد أن كشفت الحرب في أوكرانيا مدى تعطش العالم للطاقة الأحفورية وأن الجهود التي بذلت للبحث عن مصادر بديلة نظيفة ما زالت متواضعة لا تلبي هذا التعطش.
ولكن، عمليا هذا الاستنتاج خاطئ لأن البشرية مسؤولة بالتساوي عن الأضرار المناخية التي لحقت بالأرض، وهي إن لم تتشارك تحمل المسؤولية في الإنتاج، إلا أنها شريك في تحمل المسؤولية بالاستهلاك.
◘ خلال عقود لم تتوقف مساعي البشر عن محاولة الوصول إلى بدائل نظيفة للطاقة، من بينها الطاقة النووية والرياح وحركة المد والجزر والشمس والهيدروجين الأخضر
الشراكة في تحمل المسؤولية لم تبدأ مع اكتشاف البشر للوقود الأحفوري، بل بدأت قبل ذلك بكثير، بدأت مع اكتشاف البشر للنار. وكانت مصدر إلهام لقصة من أهم قصص الميثولوجيا إن لم تكن أهمها على الإطلاق.
عندما عهد كبير آلهة الأوليمب زيوس إلى بروميثيوس وأخيه إبيمثيوس تشكيل الحيوانات والبشر. قام إبيمثيوس بتشكيل الحيوانات بينما شكل بروميثيوس البشر. وتقول الأسطورة إن إبيمثيوس أنهى المهمة الموكولة إليه بسرعة، بينما استغرق بروميثيوس الكثير من الوقت. وكانت النتيجة أن إبيمثيوس استهلك كل الموارد في تشكيل الحيوانات؛ السرعة في العدو، الرؤية عن بعد، السمع من مسافات بعيدة كما أعطاها رداء من الفراء يحميها من البرد، وزودها بمختلف أنواع الأسلحة للدفاع عن نفسها مثل القرون والأنياب، ولم يبق شيء للإنسان.
لجأ بروميثيوس إلى زيوس طالباً مساعدته لتعليم البشر مهارات تمكنهم من الاستمرار في الحياة، لكن زيوس حذره من أن المعرفة لن تجلب إلا الشقاء للبشر.
لم يقتنع بروميثيوس بتحذيرات زيوس فعلم البشر فنون العمارة والبناء والنجارة واستخراج المعادن وعلوم الفلك والحساب والأبجدية والتداوي، وعلمهم استئناس الحيوان والإبحار بالسفن.
وحتى يكمل مهمته، لم يكتف بروميثيوس بكل تلك المهارات، بل قام بسرقة النار من جبل الأوليمب وأعطى شعلة منها للبشر.
ومع ظهور النار بدأ سيل من الاختراعات والتقدم البشرى. وفي وقت قصير كانت الفنون والحضارة والثقافة تغزو الأرض المحيطة بالأوليمب.
تجسد هذه الأسطورة اليونانية القديمة صورة نمطية للدراما التي يعيشها العالم المنقسم اليوم بين من يرى أن الطاقة الأحفورية ساهمت في الارتقاء بالبشرية وبين من يرى أنها أدت أو ستؤدي إلى فناء البشر.
هذه ليست أول مرة تجتمع فيها دول العالم للتداول حول تحديات التبدل المناخي، اجتمعت قبل ذلك 26 مرة. وبعد كل اجتماع كانت تخرج بحفنة من الوعود لا تسمن ولا تغني. وغالبا لا يتم الالتزام بأي منها. ليس لأن العالم لا يدرك خطورة هذه التحديات، ولكن لأن الطاقة الأحفورية فتحت الطريق أمام البشر للتقدم ليس فقط في العلوم، بل أيضا في الفن والحضارة والثقافة. وهو طريق لا يمكن التراجع عنه.
المعرفة، التي ما كان للبشرية أن ترتقي سبلها، لولا “النار” التي منحها لها بروميثيوس، جلبت للبشر الشقاء الذي حذر منه كبير آلهة الأوليمب زيوس. وقد تتسبب في هلاكهم يوما.
◘ المجتمعون لم يتوصلوا إلى قرارات تضع حدا لاستخدام الوقود الأحفوري، بعد أن كشفت الحرب في أوكرانيا مدى تعطش العالم للطاقة الأحفورية وأن الجهود التي بذلت للبحث عن مصادر بديلة نظيفة ما زالت متواضعة
خلال عقود لم تتوقف مساعي البشر عن محاولة الوصول إلى بدائل نظيفة للطاقة، من بينها الطاقة النووية والرياح وحركة المد والجزر والشمس والهيدروجين الأخضر.. ولكن، كل ما تحقق من إنجازات في هذا المجال ابتلعه تنامي الاستهلاك.
البعض أخذ على مصر، الدولة المستضيفة والمنظمة لـ(كوب 27) بالشراكة مع الأمم المتحدة، أنها أدرجت “نصا يحمي بوضوح دول النفط والغاز وصناعة الوقود الأحفوري”، وأنها لم تشر إلى أي خطة للتخلص منه. بل هي على العكس أغرقت اجتماعات القمة بحضور أكثر من 600 ممثل عن كبرى الشركات الملوثة للبيئة في العالم.
ولطالما أثارت مصالح البلدان المصدرة للنفط والغاز مخاوف بشأن إعاقة محادثات مؤتمرات المناخ، لم تنج منها قمة شرم الشيخ، التي وصفها البعض بـ”معرض لتجارة الغاز”.
كان بوسع الرومانسيين الذين يكيلون الاتهامات للدول المنتجة للطاقة الأحفورية أن يطالبوا بعقد مؤتمرات المناخ التي بلغ عددها حتى اليوم 27 مؤتمرا حضرها مئات الآلاف من المشاركين، عبر لقاءات افتراضية توفيرا لمئات الرحلات الجوية وأطنان شرائح اللحم التي قدمت على الموائد وانتهى معظمها إلى أكوام القمامة.
نحن متساوون، مستهلكون ومنتجون، في تحمل المسؤولية عن الأضرار التي لحقت وستلحق بكوكب الأرض. علينا جميعا أن نتشارك في البحث عن حلول، سواء كانت بدائل للطاقة الأحفورية أو ترشيد الاستهلاك أو زراعة مساحات خضراء، بدلا من توجيه اللوم إلى بروميثيوس لأنه قدم شعلة النار لنا وأخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة.
ستبقى شعلة بروميثيوس متوقدة طالما بقي ساكن على سطح الأرض. وأي جهود ستبذل لإنقاذ كوكب الأرض يجب أن تركز على حلول لمواجهة التبدلات المناخية في ظل الطاقة الأحفورية، لأن شعلة المعرفة لا يمكن إطفاؤها.