شعر الهايكو الياباني الأقرب إلى نبض الإنسانية وروح العصر

هاشم شفيق: الهايكو وميض براق يهتك أسرار اللحظة الأبدية.
الأربعاء 2024/08/28
هاشم شفيق: العين في قصائد الهايكو تعتبر الكشاف

رغم قدمه مثل شعر الهايكو مساحة هامة منذ مطلع القرن العشرين لشعراء من خارج اليابان، ما أثر في شعريات كثيرة من بينها الشعرية العربية. تأثير الهايكو العالمي يدعو إلى استعادة أهم أعلامه اليابانيين والوقوف على خصائصه التي جعلت منه الشعرية الأكثر انتشارا وحضورا وحتى تنوعا رغم كثافتها الكبيرة.

شكلت ترجمة قصائد الهايكو اليابانية في تسعينات القرن الماضي وأوائل القرن الحالي حضورا كبيرا في المشهد الشعري العربي، وصاحبتها تأثيرات واسعة على قصيدة الومضة أو الشذرة التي تندرج تحت قصيدة النثر، هذه القصيدة التي كانت وقتئذ قد بدأت تجاوز الهامش لتشكل متنا داخل الفضاء الشعري العربي، وهذا التأثير كان نتاج توافق القصيدتين، الهايكو والنثر، في القوة التعبيرية والبساطة والإيجاز، والخلو من الوزن والقافية والاعتناء بتجليات المشهد الحياتي اليومي، وما يعتمل في الروح والجسد من مواجهات إزاء ما يجري في العالم المحيط.

قصيدة الهايكو التي تشتبك مع ذات الشاعر وما تحمله من معارف ورؤى فلسفية وتجارب حياتية وروحية، تعددت ترجماتها إلى العربية، ونوقشت في الكثير من الدراسات النقدية وتم التأريخ لبداياتها والتعريف بكبار شعرائها، حيث اشتهر عدد من الشعراء اليابانيين بكتابتها منذ القرن السادس عشر حتى الآن.

ل

أحدث ما ترجم من شعر الهايكو “أنطولوجيا شعر الهايكو الياباني” التي ترجمها وقدم لها الشاعر هاشم شفيق، وصدرت عن دار المدى، وضمت ترجمة لقصائد مجموعة كبيرة جدا من الشعراء من بينهم: ماتسو باشو، نكومكا، الإمبراطور ميجي، أتوساشيا، ماساكوشيكي، يوسانو أكيكو، سيتوموكيشي، أشيكاوا تاكو بوكو، واكاياما بوكو سوي، نايتو ميسيستو، ماسوكا شيكي، كاوا هيجاشي هيكيغوتو، تاكاهاما كيوشي، هارا سيكتل، وغيرهم.

يقول شفيق في مقدمته للأنطولوجيا “لاقترابه من لغة الصمت، ولخلقه لغة أخرى، تنطوي على التلميح والإشارة والدلالة المكثفة، صار شعر الهايكو الياباني الأقرب إلى نبض الإنسانية، وإلى روح العصر.. هذا العصر السريع بكل ضجيجه الذي بات يغطي مساحات الخيال والرؤيا، ويعصف بالتأمل والهدأة والإطالة الرومانتيكية، ويفتك بالوقت لدى البشرية، مما جعلها هي نفسها أداة جامدة ذهنية، تتلقى طوفان الاستهلاك الذي لا يجارى، طوفان ضيع وقت الإنسان وجمالياته وبصيرته في طاحون لا يفتأ يقدم المزيد من التقنيات والمبتكرات، وما على الإنسان الحديث سوى الذهول والتلقي لهذا الصنيع”.

من ذلك المنطلق نجد شعر الهايكو الياباني، وفق شفيق، وهو يستعاد أو يكتب في اليابان ويقدم في أوروبا وفي العالم العربي، على هيئة ومضات وإلماحات اختزالية وشذرات بارقة، رؤيوية، تشكل مع الهايكو القديم والمستعاد معادلا نفسيا لعصرنا، هذا العصر الذي بدا عالي النبرة بطلاقته الآلية وقوة فصاحته التكنولوجية.

ويضيف “من هنا أمست قصائد الهايكو الياباني نصوصا شعرية قائمة بذاتها، تختزن صورًا ناطقة، صورًا تحتكم إلى منطق الحكمة والأفكار والتصورات القديمة حول علاقة العين التاريخية الراصدة للإنسان بتحولات النبات والحيوان والأزمنة. فالعين في قصائد الهايكو تعتبر الكشاف الذي يسبر بنوره كوامن الأشياء النابضة، في متحف الطبيعة الحي، العين التي تختزل المشهد الكبير إلى مشهد صغير ودقيق لا يحتمل الرتوش والفيوضات والزوائد، مشهد قائم بعناصره الأثيرة، حيث لا مسوغات للرؤيا والمخيال الشعري أن ينشط ويبتكر مراسم هذيانية، لا نواظم لها وغير محكومة بضوابط، فالعنصر الذي يظهر في المشهد، القصيدة، هو كاف لأن يقدم مفاهيمه الدلائلية من خلال منظومة المواد الحسّية، ذات البيان والجلاء والنتوء الشفاف للمادة، بوصفها جواهر مكنونة في بواطن الكينونات، لها لوامس وأصوات وحركات وأفعال”.

الهايكو نجح عالميا نظرا إلى اقترابه من لغة الصمت ولخلقه لغة أخرى تنطوي على التلميح والإشارة والدلالة المكثفة

ويتابع “لذا المشهد في قصيدة الهايكو تحضره القيم الوجودية للطبيعة؛ قمر، ساقية، فراشة، ربيع، حقل، بيدر، حصاد، ريح، شتاء، شجرات كرز، تجوال، تسكع، غناء، بكاء، مطر، طير، سحاب، برق، ريش، زقزقة، مواء، إلى آخره. لذلك تتبدى قصيدة الهايكو كأّنها لمحة، أو وميض براق يهتك أسرار اللحظة الأبدية، يعريها ويقربها إلينا في صورة ترتكز إلى بنية لغوية مكثفة، حد أن تصبح القصيدة بمثابة قطعة بلورية، ما إن تمسها الأخلاط حتى يتكدر نورها الصافي، لكأنها مجموعة لآلئ ثمينة، يكمن فيها الجوهري، الموسوم بميسم سرمدي يلغي إسطورة الزوال، ما أدى بالقصيدة إلى أن تمتح من معين الجمال الطبيعي للحياة، ومن شعاب التجربة الإنسانية الروحية لحياة قائلها، وما تضمره من معاناة وأطياف ورؤى كونية ذات منعطفات جمالية تاريخية”.

ويلفت إلى أنه سترد في إطار هذا الشكل الشعري أسماء شعراء يابانيين كبارمثل ماتسو باشو (1644 ـ 1694) وشعراء آخرين لا يقلون شأنًا عن الكبار، وسأفرد في هذه المختارات مكانا أوسع ومجالا خاصا لباشو كونه أستاذ ومعلم الشعر الياباني. إن عبقرية باشو تتجلى في رفع الشعر الياباني في عصره، وبخاصة شعر الهايكو، إلى ذروة البساطة المطلقة المشفوعة بثروة إيقاعية عميقة، حيث سعى من خلال التقاليد البوذية إلى النزوع الصوفي ذي الرؤية التوحدية الممتزجة مع جوهر الطبيعة، وبهذا كان لباشو دور في القضاء على التصنع والتحذلق الشعريين ليمسي أهم شاعر في جيله وعصره حينذاك.

ويعد شفيق الشاعر ماتسو باشو رائد قصيدة الهايكو، ويقول إن روائعه تعكس حياته التي قضاها في الأسفار وجعلت منه روحانيا على نحو مثالي، معبرا عن ذاته في دقة، ضمن لغة يتخللها الصفاء في التعبير والنقاء والأناقة والتطريز في تجاويف النسيج الشعري. وفي المآل آمل أن أكون قد توصلت إلى إيصال نفحة من هذه النفحات التي تعج بها هذه الأعماق الرقيقة لهذه الكوكبة الخلاقة من شعراء هذه المختارات، وعليّ أن أكون أيضا قد أوجدت جسرا شفافا بين القارئ وهؤلاء الشعراء، جسرا بالتأكيد لن يكتمل إلا بإضافات القراء والمتابعين المهتمين بهذه الآثار الإبداعية النادرة والخلاقة.

نماذج من الأنطولوجيا

أتوساشيا ـ

لا جبال عالية

ولا هضبات منخفضة

قبل عينيّ

كانت السماوات منهارة.

ـ هجرت أرض الرجال،

وأتيت إلى مكان فيه

الأمواج البيضاء

تشق الأرض إلى نصفين. ـ

لا شيء يُرى

وراء الباب،

برد وارتعاش

والشمس غامت

واتكأت على خشب ناحل.

أشيكاوا تاكو بوكو ـ

اكتداح وشغل،

حتى الآن لا متعَة في الحياة،

لم يزل السقف فارغا،

قرب يديِن فارغتين.

ـ طول النهار،

أحن إلى بيتي

كما لو كنت مريضا:

كآبة سماء رمادية.

ـ استطاعوا رشقي بالحجارة،

وأنا أتجه خارجا،

تلك ذاكرتي لم تكن كليلة أبدًا.

ـ في الثلج الذي يتراكم ناعما،

ثمة خدود مدفونة هناك،

إنها حبي.

واكاياما بوكوسوي ـ

على سرير البحر،

يعيش سمك أعمى،

إذن فليقولوا :

إني أستطيع أن أكون

مثل ذلك السمك الأعمى.

ـ عند ناحيتي

طحالب خريف

وأزهار تهمس بنعومة:

كم هي عزيزة عليّ

كل تلك الأشياء الميتة؟

ماسوكا شيكي ـ

مرة بعد أخرى

ومن سرير مرضي سألت:

لكم هو عميق هذا الثلج؟

ـ قريبا سيموت

ضاجا أكثر من أي وقت مضى

زيز حصاد الخريف.

تاكا هاما كيوشي

هربت الأفعى

لكن عينيها

لم تزل هناك

في الأعشاب تراقب.

ـ على القبّعة

والثوب المهلهل للفزاعة

أمطرت فجأة.

ـ بمواجهة السماء الواسعة،

تتكئ وتتمطى

أشجار الشتاء.

ـ في عيني الرجل العجوز

شمس حادة،

تبدو مربكة.

إيدا واكوتسو ـ

عند مصباح الشتاء

الوجه الميت،

ليس بعيدا

عن الوجه الحيّ.

ـ في طريقها المعهود،

رفعت وشاح صدرها لتتهوّى،

كما لو أنها رفعت مروحتها.

كاوباتا بوشا ـ

بدر مشع

والجراح في عمق الثلج

لم تمح بعد.

ـ وسادتي قاسية

كأنها حجر،

أنا زيزان الحصاد

ذلك الذي يصرخ

بصوت عال.

رائد الهايكو ـ ماتسو باشو ـ

عظام

بلا وجه أنا

تبعثرت في الحقل،

ثمة ريح

قطعت جسدي.

ـ الشتاء ينسكب فيه المطر بغزارة،

حتى القرد

يحتاج إلى معطف مطريّ.

ـ مطر أول هذا الشتاء

اسمي مسافر فيه

يتهادى هناك.

ـ أيتها الفراشة

انهضي

تأخر الوقت

فلدينا أميال

لنقطعها معا.

ـ ما يعوم ويطفو

في زوايا العالم

كفيلة بكنسه نهايُة السنة.

ـ موحش

صوت صرار الليل

المتدلي من الحائط.

 

12