شعراء عرب يجيبون عن سؤال: لماذا تكتب الشعر؟

قدمت مجلة "الجديد" في عددها الخامس والسبعين لشهر أبريل ملفا كاملا بعنوان “هكذا تكلم الشعراء” شارك فيه ثلاثون شاعرا عربيا وستة نقاد من سوريا، المغرب، فلسطين، عمان، لبنان، العراق، مصر، الجزائر، تونس، واليمن، في إطلالة على القضايا الراهنة للشعر ورؤى الشعراء لكتابة الشعر. وفي ما يلي نورد بعض آراء الشعراء من المحيط إلى الخليج حول الشعر والشاعر ورهانهما اليوم.
لندن - انطلقت مجلة الجديد في ملفها الشعري بعنوان "هكذا تكلم الشعراء" من عدة أسئلة راهنة تؤرق الشاعر وقارئ الشعر على حد سواء.
وسألت المجلة عددا من الشعراء العرب لماذا يكتبون الشعر وما الذي يريدونه من القصيدة؟ كما تطرقت معهم إلى ما حققوه من الكتابة الشعرية ولم ينتبه له نقاد الشعر، إضافة إلى سؤالهم إن كان هناك شاعر أو شعراء عرب في الزمن الحاضر لا يمكن تصور الشعر من دونهم لما لمغامراتهم وتجاربهم مع الشعر من أثر خاص، إذ غالبا ما نسمع هذه الجملة “الشعراء أغرقوا السوق بكتابة خرقاء، ولا يوجد اليوم شاعر عربي مهم”.
وتطرق الملف مع الشعراء إلى تأثير الواقع في الشعر، خاصة وأن الواقع العربي شطح بعيدا وسبق بوقائعه الغرائبية خيال الشعراء، وبالتالي أربك مخيلاتهم وأدخل الكتابة الشعرية وأهلها في مأزق وجودي.
ضد الكتابة على فيسبوك
يقول الشاعر العماني زاهر الغافري “لا أعرف حقا لماذا أكتب الشعر، كل ما يمكن أن أقوله هو أنني وجدت نفسي منقادا إلى الشعور اللذيذ بالكتابة في هذا المجال ثم بعد ذلك تلقائيا، وجدت أن لدي مشروعا شعريا، أحاول تعميقه وإضافة المساحات المبتكرة في هذا المشروع الذي يقود، بالتأكيد إلى المجهول. كتابة الشعر لا تقود بالضرورة إلى مطارح معلومة وواضحة فأنت تبدأ بكتابة قصيدة وتنتهي بقصيدة لم تكن في بالك، كأن القصيدة تكتب نفسها أو كأنها تقيم في نفسها للتحرر من كاتبها”.
ويضيف “أحاول في الشعر الالتفات إلى صيغ محببة لديّ، أعني المزاوجة بين ما هو شعري وفلسفي عبر موضوع القصيدة، الموت، الحب، الغياب، التفاصيل الظلية، وهذه كلها ترتقي إلى عطب ما في روح الكائن”.
ويلفت الغافري إلى أن النقاد غالبا لا ينتبهون سواء في الذي حققته في الكتابة الشعرية أو الذي لم تحققه، ويرى أن أغلب الدراسات النقدية تلجأ إلى تصورات انطباعية قد تنطبق على الشعر العربي الحديث كله، وليس بالضرورة على شاعر بعينه، خصوصا ما يكتب في الصحافة العربية والاستثناءات قليلة.
ويؤكد الشاعر العماني أن هناك شعراء أحببت قصائدهم سواء كان في الشعر العربي أم في الشعر العالمي، ويضيف دون ذكر أسماء في المجالين، يكفي أن أقول إنني أحبذ الأخوة الشعرية هناك نصوص أتقاطع معها وهناك نصوص شعرية مبهرة تستقي بريقها من جماليات رهيفة وهادئة، وربما تلقائية، فأنا أبحث عن تلك “الكتابة المبهمة الجسورة” التي تحدث عنها إيف بونفوا، أذهب دائما إلى مساحات ومطارح فيها المتعة والفكر والصياغات الوليدة غير المطروقة، قد تكون هذه دوافع لمحاولة تبيان ما هو جديد ومثير للأسئلة. أما التصورات الذاتية المحضة فأظن أنها ترقى إلى الخواطر الرومانسية والإنشائيات والعواطف السهلة.
ويقر بأن هناك شعراء مهمّين، وقد استطاع هؤلاء الشعراء أن يحركوا الماء الآسن من خلال طرح جماليات القصيدة الحديثة وفق تصوراتهم وغالبا في طرح أسئلة تلتقي بما هو وجودي واليومي المعيش، وتفاصيل اللحظة الراهنة أو الاستفادة من عمق التراث الشعري العالمي في صياغات مبتكرة وجديدة في الشعر.
بينما يرى أن الواقع أحيانا أكثر غرائبية من الخيال، لكن المخيلة لا ترتكن إلى الواقع، لأن المخيلة تعمل وفق أكثر الأساليب سحرية، المخيلة تطير إلى أبعد، ولا يظن أن الشعر العربي يمر بمأزق ما، إذا استثنينا الكتابات السهلة التي تنشر أحيانا في وسائل التواصل الاجتماعي، فهو لا ينشر قصائدي في وسائل التواصل الاجتماعي إلا وهي منشورة مسبقا. أما عن صمت الشعراء، فهو كما يقول “أمر يختاره الشاعر لسبب ما والصمت هنا ليس عدم الكتابة، هناك شعراء صامتون ولا ينشرون لكنهم يكتبون كما حدث مع الشاعر صلاح فائق الذي توقف عن النشر لسنوات طويلة لكنه لم يتوقف عن الكتابة، أظن أن الصمت مفيد أحيانا للشاعر لكي يعيد اختبار ما حققه، نوع من المراجعة الصامتة ثم العودة بقوة كما حدث أيضا مع الشاعر سركون بولص في مرحلة من حياته.
ويلفت الشاعر اللبناني عبده وازن إلى السؤال عن لماذا تكتب الشعر غالبا ما يبدو أشبه بالسؤال عن لماذا تتنفس أو تعيش أو تحلم أو تتأمل. ويقول “إنني ببساطة تامة أستعير مقولة هولدرلن الشهيرة لأقول: إنني أعيش شعريا على هذه الأرض. الشعر يرافقني لحظة تلو لحظة، حتى في النوم. لا معنى لحياتي دون الشعر، الشعر بوصفه حالة روحية أو نفسية أو ميتافيزيقية ودينية، أم بوصفه كتابة وتوهجا لغويا. هنا سر الشعر. أعتقد أن السؤال الأول الذي طرحه الإنسان عندما أصبح إنسانا على هذه الأرض، كان شعريا. وأجمل الخرافات التي يسوقها كتاب ‘جمهرة أشعار العرب’ في مقدمته أن آدم كان شاعرا”.
ويتابع “أما ماذا أريد من القصيدة، فهو أن تشهد بكلماتها أي بجسدها أو بدمها على ما أعيش من حيوات داخلية، من حدوس، من مشاعر، من تخيلات، من صراعات نفسية، من رؤى، من خوف، من غضب صامت، وأسئلة لجوجة لا حدود لها تطلع من صميم هاوية الروح أو من رباها المشرقة”.
الملف تطرق مع الشعراء إلى أهم قضايا الشعر العربي في زمن لا يكف عن اتهام الشاعر بالتقصير والرداءة
ويقر وازن بأن حركة النقد الشعري ضئيلة في العالم العربي وهي تتضاءل أكثر فأكثر، ويصفها بـ”المعلبة” والمغلقة والمحدودة. ولم يرافق النقاد القلة أصلا، حركة الشعر الجديد والراهن كما يجب. بينما يرى بأن ما يكتب من شعر عربي راهن استطاع أن يضاهي الحركات الشعرية الراهنة في العالم، مضيفا “لدينا اليوم شعراء كبار فعلا. والريادة لم تعد مقتصرة على الأسماء السابقة التي تحول معظمها إلى أصنام”.
ويذكر وازن أن هناك تهما توجه إلى الشعر الجديد دوما، ومنها الركاكة والضعف والأمية وعدم المعرفة اللغوية والتفكك وسواها. بعض هذه التهم قد يكون حقيقيا، فالشعر أصبح مشاعا وأرضا مشرعة بلا سياج. هناك شعراء جدد لا يتقنون قواعد اللغة مثلهم مثل بعض الروائيين والقاصين الجدد، ولا يملكون ثقافة واسعة، لا يلمّون بأصول الكتابة ومعاييرها ولا يسعون إلى تعميق تجربتهم والانفتاح على سائر الجماليات. هؤلاء الشعراء ساهم في ترويج أسمائهم النشر على الإنترنت والفيسبوك. ينشرون قصائدهم بلا مراجعة ولا تصويب ولا “اشتغال” بحسب مقولة الشاعر بول فاليري. لكن هؤلاء لا يمثلون واقع الشعر الحقيقي الراهن. إنهم على هامش الحركة الشعرية ولن يدوموا طويلا.
ويضيف “هناك أشخاص انخرطوا في الكتابة الشعرية بصفتها ‘موضة’ رائجة، لاسيما الشاعرات اللواتي يحتللن شاشات الكمبيوتر مع صورهن. فالنشر الإلكتروني لا رقيب عليه، على خلاف النشر في المجلات والصحف. لكنني سأكون متسامحا وأقول مع لوتريامون: ليكتب الجميع الشعر”.
ويشدد وازن على أن الشعر إما أن يكون دوما في أزمة أو لا يكون. إنه صنو الحياة. والأزمات التي يجتازها الشعر تدل على مدى حيويته وحقيقته. والأزمة الشعرية تكون فردية أو شخصية في أحيان، وجماعية في أحيان أخرى.
شعراء اليوم

يقول الشاعر الجزائري خالد بن صالح “كنت دائما أردّد أنني كشاعر، جئت من الأبواب الخلفية، لم أفكر في البدايات أن خيانة الرسام الذي كنته لسنوات طويلة، ستكون هي مصيري الأوحد في الحياة، وأن الشعر، مهما كانت أمكنته غامضة في داخلي، سيكون نقطة انطلاق نحو فهم العالم والوجود. سؤال لماذا؟ لم يخطر ببالي كثيرا، لكنه يصلح كسؤال شعري داخل النص، وأذكر في كتابي ‘الرقص بأطراف مستعارة’ قصيدة العتبة الأولى التي أطرح فيها السؤال ذاته، وأعتقد أن الإجابة، المترددة، وغير الحاسمة، تصلح دائما لأجدد الإيمان بها ‘أكتب بدافع الضجر’ وطبعا “أنتصر بلا تردد للعادي، للأشياء التي تتأخر في أن تصير عادية، لأسباب واهية”.
ويقر بن صالح بأن فكرة المشروع الشعري بالنسبة إليه، لا تتشابك مع مفهوم الفكرة كامتياز، بقدر ما هي على علاقة بما يحاول كتابته ويستمر فيه، والطريق، في رأيه، طويلة ووعرة ولا تخلو من المطبات، لكن الأهم هو الاستمرار.
ويضيف “القلة التي تكتب نصوصا جيدة من الشعراء، لا تلقى الاهتمام اللازم. لكن الحكم الجاهز الذي يقول إن هناك من أغرق السوق بكتابة خرقاء، هو إحدى الحماقات التي يروجها البائسون من أصنام الثقافة والمؤسسات الثقافية الرسمية وأصحاب دور النشر التجارية وغيرها، متناسين أنهم يتحملون مسؤولية تواجدها.
ويرى الشاعر الجزائري أن الصمت قد يكون وليد صدمة ناجمة عن هذا الواقع الغرائبي المرعب، والذي يضعنا أمام سؤال جدوى الكتابة باستمرار، ذلك أن الشاعر أصلا يكتب في الكثير من الأحيان انطلاقا من مأزقه الوجودي، وربما بتراكم هذه “الوقائع العجيبة” يصبح الخيال الشعري بمفهومه المتداول، موضة قديمة. لكن، للشعر وفي الكتابة عموما مداخل أخرى، على الشاعر أن يبحث عنها وأن يكتشفها.
ويقول الشاعر والباحث العراقي خزعل الماجدي “أكتب الشعر لكي أشعر بالمعنى، أكتبه لأنه طاقتي اليومية المتدفقة من الينابيع السرية، أكتبه لأنه يعينني على خشونة أيامي وصرامة ما أكتبه خارجه، أكتبه لكي أحقق لماهيتي وذاتي امتلاء وجودهما، أكتبه لكي أهزم الماضي ولكي أصطاد المستقبل، أكتب الشعر لأني جعلت له وظيفة عملية محددة في حياتي وبها يكتمل الشعر عندي، أكتب الشعر لكي أشعر بفرادتي ولكي أدون أسطورتي الشخصية”.
ويضيف “أكتب الشعر عفويا كما تنضح به تجاربي الواقعية وما يتماسك في أسلوبياتي، لكنْ هناك مشروع بنيته بعناية وحرص، بعد كل هذه التجارب أراها وقد اجتمعت في مجلدات شعري الثمانية (وهي الأعمال الشعرية التي صدرت) كمأوى روحي وجمالي لي أعتز به”.
ويرى الماجدي أن أغلب الشعراء المعروفين أكملوا مهمتهم على وجه جيد وغيابهم لن يؤثر على مشهد الشعر الحالي، فهناك عزف شعري جديد يقدمه بعض الشباب لا بد من الانتباه إليه وتركه يأخذ مجراه ويحفر نهره بهدوء. الواقع تغير وانفضح بشكل غير مسبوق، وكل من لا يتلمس بشعره هذا فسيمر الزمن عليه.
ويرفض القول بأن “الشعراء أغرقوا السوق بكتابة خرقاء”، معتبرا أنها جملة تقيس الشعر بمسطرة عتيقة تعود إلى زمن الشعراء العرب الكبار النجوم في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي مسطرة المنبر والكاريزما والشهرة الإعلامية ومهرجانات الشعر والتوازي مع زعماء العرب (بنية شعرية في مقابل بنية سياسية)، لا بد من وجود مسطرة جديدة تنظر للشعراء لا كنجوم.. وإنما كقطع فسيفساء تكمل بعضها لترسم صورة شعرية بلا مركز فحل لها.
ويقر الماجدي بأن الواقع اليوم يقترب من الشعر أكثر، فقد نزع هذا الواقع ثيابه المزركشة اللماعة وأصبح عاريا يشبه الشعر في صراحته، وإن كان قاسيا ومعذبا، لكنها الحقيقة. كان الشعر، أيضا، يحتمي ببراقعه البلاغية مثل الواقع المزين بمكياج رقيع ورخيص. ولذلك فإن أكثر من صدمتهم هذه المفارقة هم الذين كانوا يعيشون ببلاغة زركشية أيضا، أما الشاعر الباصر المعلم العميق والذي كان يرى باطن الواقع السابق فلم يصدم بل أتيحت له فرصة أفضل ليقول ما يريد.
ويقول الشاعر المغربي عبدالرحيم الخصار “ينتابني خلال السنوات الأخيرة الإحساس بأنني أكتب الشعر في زمن غير شعري، وهذا الشعور لا أعرف إن كان ينقص من قيمة ‘العمل الشعري’ لدي أم يضفي عليه جمالية خاصة، ذلك أني أتصور أن كتابة الشعر هي عمل مهم، وفي الآن ذاته أحس أنه عمل من لا عمل له. كيف يترك المرء فرصة تطوير وضعه الاجتماعي والاقتصادي كما يفعل معظم الخلق، ويجلس وحيدا في مكان ما بعيدا عن الناس ليكتب الشعر؟ هذا الشعر الذي يشكو الناس من عدم فهمه، ويشكو الناشرون من مشكلة تسويقه. لماذا يتعب المرء نفسه ويتعب من حوله من أجل صناعة سلعة بائرة؟”.
هذا الشعور اليائس يوازيه على الدوام شعور مناقض تماما، ويتعلق الأمر بالإحساس بلذة غريبة حال الانتهاء من كتابة نص شعري جديد. الشاعر رجل يمرح في الرمزيات، كما لو أنه مقيم على الدوام في حقل من الأوهام اللذيذة. لا يمكنك أن تقنع شاعرا بالابتعاد عن الشعر، ولا يمكن أيضا لشاعر أن يقنعك بجدوى الشعر. كنا نقرأ قصصا عن الحب الذي يعذب الناس، لكنهم يتبعونه إلى نهايته، يحملون العبء ولا يرغبون في التخفف منه. كتابة الشعر شبيهة بهذه الحالة. الشاعر رجل يسهر ليعذب الكلمات وتعذبه.
ويذكر الخصار أن هناك شعراء لا يُعرف كيف كان تاريخ الشعر سيكون دونهم. لكنه كما يقول “لم أتأثر بالشعراء أو الكتاب الكبار. فأول الشعراء والكتاب الذين قرأنا لهم في المدرسة لم يكونوا بالضرورة هم الذين سأقدر تجاربهم لاحقا. لكن ذلك لا ينفي تأثيرهم”.
لا يجدر بالمعني بحقل الأدب في عصرنا أن يبحث عما إذا كان الشاعر مهما أو غير مهم. المهم هو كتابة الشعر. أعتقد أن الكثير من شعراء اليوم يكتبون أفضل بكثير من رواد الشعر الحديث. إنه حظ الزمن. الكثير من النصوص الرائدة زمنيا بسيطة، بل أحيانا ضعيفة.
ويقر الشاعر الفلسطيني سامر أبوهواش بأنه لا يعرف لماذا يكتب الشعر إلا حين يخلو منه. حين لا يعود من شعر في داخله، يتنبه إلى ذلك النقص الفادح، ويغدو عيشه برمته فاقدا الهدف والبوصلة. ويقول “أكتب الشعر لأني من خلاله فقط، أرى العالم بقدر ما من الوضوح، وأجد له شيئا من المعنى، وأجد لنفسي شيئا من المعنى فيه”.
ويرى أن مسألة “المشروع الشعري” لأي شاعر ينبغي أن تكون من خلاصات القراءة والنقد، لا الشعر نفسه. ويقول “أعرف يقينا أن لدي مشاغل وهواجس شعرية. أعرف أن لدي تفضيلات، لاسيما في ما يتعلق بالأسلوب الشعري، وأعرف أن هناك أمورا ألحّ في طلبها من الشعر. فالشعر وسيلتي الوحيدة تقريبا لترميم ذاكرة شخصية تبدو لي مبددة باستمرار، ولا أعني بالذاكرة الماضي البعيد فحسب، بل حتى الأيام والساعات التي أحياها، والمستقبل الذي لم أعشه بعد”.
ويعتقد أبوهواش أن هناك العشرات من الشعراء العرب المهمين اليوم. ومنذ نزار قباني إلى يومنا هذا، هناك تجارب جادة وعميقة ومؤثرة، بصرف النظر عن ارتفاع منسوب قراءتها أو انخفاض ذلك المنسوب.
ويعترف الشاعر بأنه شخصيا يتجه بخطى ثابتة خلال السنوات الأخيرة نحو الصمت، أو نحو غواية الصمت. ويقول “لم أعد أجد جدوى، ليس من الكتابة (والترجمة) التي ستظل أساسية بالنسبة إلي، بل من أن أكون جزءا من هذه المنظومة الثقافية البائسة. هي رغبة في الانكفاء لا الصمت”.
الشعر والتاريخ
يقول الشاعر اللبناني بهاء إيعالي “لم أفكر يوما أن أسأل نفسي لماذا أكتب الشعر، ربما لأنني اعتبرت الأمر بداية محض تمرين لملء وقت فارغ، هذا التمرين الذي لم يلبث أن جرّني إليه كما ينجر المقامر إلى لعبة الروليت، وبعد قرابة العشر سنوات من التجريب أكاد أجزم أنني لم أجد إجابة”.
ويضيف “يحاول بعض أصدقائي أن يطرحوا علي هذا السؤال: ما الذي اكتسبته من الشعر؟ أقول إن الشعر لا يعطي شيئا بل هو يأخذ، أو كما يقول مثل طرابلسي: يريد الأكل دون أن يتغوّط. لهذا لم أفكر يوما في أن أعود لقراءة قصائدي ممسكا لبعض النقاط التي لم ينتبه إليها من يسمون بنقاد الشعر، وهذا ليس إلا لعقيدة أعتنقها بأن الشاعر الحقيقي لن ينصفه معاصروه بقدر ما سينصفه من يليهم”.
ويقر الشاعر اللبناني “أنا لا أعرف كيف أكون لوتريامونا، لكنني أعرف متى أكون غاضبا فقط، هذا الغضب الذي هو إحدى دوافعي الشخصية للكتابة، هذه الدوافع التي لم تكن لتجد بلورة حقيقية لولا شعراء أوقن أنني لم أكن لأحب الشعر لولا حضورهم فيه”.
ويرى إيعالي أن الحل أمام هذا المأزق الحاصل قد يكون هو الصمت، فاليوم الكثير من الشعراء يلجأون للصمت حيال هذا المأزق، هذا الصمت الذي هو سلاحهم الحقيقي في مواجهة هذا الواقع الغرائبي المتعب أدبيا وثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بذلك هم ينسفون ما يقال عن الشعراء بأنهم ألسنة الأمم، ليتحولوا بالتالي إلى ألسنة لأنفسهم فقط. من الواضح حاجة الشعراء أجمعين للإيمان بالصمت اليوم، فالعالم لا يحتمل المزيد من الفوضى والكتابة تحتاج لغربلات كثيرة من شأنها أن تنصف الشعر يوما.
ويقول الشاعر المغربي حسن نجمي “أكتب الشعر لنفسي أولا، ولأصدقائي الشعراء وغير الشعراء، خصوصا وقد أصبح الشعراء لا يقرؤهم غالبا سوى الشعراء. كان بورخيس يجيب من يسأله ‘لماذا تكتب؟’ بقوله: أكتب لنفسي ولأصدقائي، ولأجعل مجرى الزمن ناعما”.
ويضيف “أكتب الشعر لأدون دهشتي، وأظن أن الشاعر كالطفل كثير الاندهاش أمام الأشياء كلها. الدهشة فعل إنساني جميل وناعم وخلاق، والشاعر حارس لهذه الدهشة ومؤرخها اللامرئي. من الدهشة أيضا يولد الشعر مثلما تولد الفلسفة، ومن ثم هذا النزوع الشعري، والإنساني بصفة عامة، نحو الميتافيزيقا وبعض المتعاليات، وكذا هذا الانشغال بأسئلة الحياة، خصوصا منها سؤال الموت”.
ويرى نجمي أن الكتابة الشعرية تجربة إنسانية بامتياز، وهي في حد ذاتها مشروعنا الشعري. ما هو المشروع أولا؟ في أي مجال؟ المشروع هو أن تكون لديك خطة عمل، وأهداف محددة، وأدوات تنفيذ! هكذا، فالشاعر يروض نفسه وكيانه ورأسماله اللغوي والجمالي والمعرفي والثقافي لكي يشيد لشعره أفقا، “مشروعا” إن شئت. وهكذا، من الفكرة الصغيرة، من اللحظة، من الكلمة، من الصورة، من الجملة ينطلق ليكتب قصيدته، ثم يجمع قصائده أو شذراته ليشكل كتابا شعريا، وينطلق في مساراته الأدبية ليراكم أعماله من كتاب شعري أو نثري إلى آخر قبل أن يصل إلى إنجاز أعماله الشعرية “الكاملة” كي يصبح له أثر شعري حقيقي (Oeuvre).
والشاعر، في رأيه، ليس مجرد قصيدة أو كتاب شعر، وإنما هو أيضا حضور في المجتمع وفي التاريخ، يحضر بموقفه ورأيه وفعله الثقافي والسياسي والمجتمعي، وبالتزامه الإنساني والرمزي والأخلاقي بالقضايا العادلة.
ويتابع الشاعر المغربي “عندما أطل على مختلف جغرافيات وخرائط الشعر، وعلى تجارب كبار شعراء العالم، أحسّ على العموم بمحدودية وتواضع منجزنا الشعري العربي المعاصر. وأنت تلاحظ، بعد وفاة محمود درويش وعزوف سعدي يوسف، عن الخوض في فضاءات المنافسة – ودون أدنى مفاضلة أو تراتبية متحذلقة – ليس لدينا في الحقيقة سوى شاعر عربي واحد يمكن أن نقول عنه إنه شاعر كوني بامتياز هو أدونيس، وأيضا بمنجزه الشعري والمعرفي والفكري أولا، وبدوره البارز في بناء صرح الحداثة الشعرية العربية، وبحجم ترجمات أعماله الشعرية والفكرية إلى حوالي عشرين لغة، وعدد الجوائز الشعرية العالمية ذات القيمة التي حازها حتى الآن، وامتداداته وتعدد حضوره في مقدمة المشهد الشعري العالمي أكثر من أي شاعر عربي آخر”.
ويظن نجمي أن ظاهرة الانقطاع عن الكتابة أو الخلود إلى الصمت في الوسط الشعري العربي لها أسبابها السوسيولوجية ولا علاقة لها بالضرورة بشعرية الكتابة في الغالب الأعم.
ويبيّن أن الكتابة عموما لم تعد فعلا سهلا بل أصبحت لها خطورة وكلفة في واقعنا العربي. فالاندحار الاجتماعي والاقتصادي في أغلب الأقطار العربية ألحق أضرارا جسيمة، من دون شك بالمثقفين والمفكرين والنقاد والشعراء والكتاب والإعلاميين، وبالتزاماتهم الإنسانية والوطنية والقومية.