شركات طاقة أجنبية تغادر تونس وتتركها تواجه أزمتها منفردة

حولت كثرة الإضرابات تونس إلى بلد طارد للمستثمرين وشركات الطاقة الأجنبية التي اختارت مغادرة البلاد آخرها شركة “شل” النفطية، وذلك بسبب عجز الحكومة عن حماية مواقع الإنتاج الذي توقف مرات عديدة على خلفية ضغوط المحتجين لتترك بذلك البلاد تواجه منفردة أزمة اقتصادية حادة وسط مناخ سياسي مأزوم يصعب من خلاله استقطاب استثمارات أجنبية أخرى.
تونس – خلف قرار شركة “رويال داتش شل” النفطية مغادرة تونس بحلول يونيو 2022 استياء لدى الأوساط الاقتصادية بالبلاد التي ترى أن انسحاب شركة عالمية ذات ثقل بسوق النفط الدولي يعكس رسالة سلبية مفادها أن تونس تحولت إلى بلد طارد للمستثمرين والشركات الأجنبية بسبب كثرة الإضرابات العمالية وضعف الحكومة التي باتت عاجزة عن حماية وجود مثل هذه الشركات والتزاماتها الخارجية.
وأعلنت الشركة، التي تنشط في تونس منذ نحو 90 عاما، عبر حسابها على تويتر الثلاثاء أنها قررت مغادرة البلاد في يونيو 2022.
وبرّرت الشركة قرارها بأنها تعتزم الخروج من أنشطة الاستكشاف وإنتاج النفط والغاز، وأنها يمكن أن تعود إلى تونس للاستثمار في الطاقات البديلة.
وأوضح مدير عام المحروقات بوزارة الصناعة التونسية رشيد بن دالي لـ”العرب” أن “شركة شل قررت مغادرة أنشطة المحروقات في تونس”، لافتا إلى أن “تاريخ مغادرة الشركة هو تاريخ انتهاء رخصة استغلال حقل ‘ميسكار’ في ولاية قابس (جنوب شرق)، حيث سيعود استغلال الحقل إلى تونس، فيما ستنتهي صلاحية الحقل الثاني ‘صدر بعل’ الامتياز الثاني الذي تحظى به الشركة في البلاد في حدود سنة 2035”.

رشيد بن دالي: شركة "شل" قررت مغادرة أنشطة المحروقات في تونس
ويعزو بن دالي سبب رحيل شركة الطاقة العالمية إلى سببين؛ بيئي وسياسي. ويتعلق الأول بإستراتيجية الشركة التي تريد التخلي عن كل الأنشطة ذات الانبعاثات الكربونية للحد من إضرارها بالبيئة والمناخ، حيث اختارت التخلي عن الأنشطة الصغيرة ذات الربحية المحدودة في دول العالم من ضمنها تونس.
أما السبب الثاني فهو متعلق بالمناخ السياسي والاجتماعي المأزوم نتيجة تواصل الاحتجاجات وديون الشركات العمومية وتعقيدات الجانب التشريعي والجبائي، وهي عوامل لا تشجع المستثمر الأجنبي، حسب تعبير بن دالي.
وعلق “لم تعد لتونس مكانة لدى شركة شل العالمية”.
وربط الخبراء قرار شل المغادرة بتداعيات أزمات تونس السياسية والاجتماعية والاقتصادية على الاستثمار، حيث لم يعد المناخ في البلاد ملائما للاستثمار الأجنبي بسبب تواصل الإضرابات والاحتجاجات وابتزاز هذه المؤسسات في غياب الحكومة المنهمكة في تصفية الحسابات مع خصومها السياسيين.
وكانت وكالة رويترز قد كشفت في مارس الماضي أن شركة شل عينت بنك الاستثمار “روتشيلد أند كو” لبيع أصولها التونسية التي تشمل حقلين بحريين للغاز ومنشأة إنتاج برية اشترتها الشركة الإنجليزية – الهولندية في إطار استحواذها على مجموعة “بي.جي” بقيمة 53 مليار دولار (147 مليار دينار في 2016.)
يأتي ذلك بينما عينت إيني الإيطالية بنك لازارد لإدارة بيع عملياتها، كما تخطط شركة “أو.إم.في” النمساوية لبيع أنشطتها المتبقية للنفط والغاز في تونس وذلك بعد أن قلصت تدريجيا وجودها في البلاد.
وباعت “أو.إم.في” عام 2018 أغلب محفظتها في البلاد إلى “بانورو إنرجي” المدرجة في أوسلو مقابل 56 مليون دولار، ويفيد تقريرها السنوي بأنها أنتجت حوالي 4 آلاف برميل يوميا من المكافئ النفطي في 2019.
وكانت “أو.إم.في” وشركة النفط الوطنية التونسية قد بدأتا العام الماضي حقل نوارة للغاز، وهو أكبر مشروع بالبلاد في السنوات الأخيرة، والذي من المقرر أن يرفع إنتاج “أو.إم.في” إلى 10 آلاف برميل يوميا من المكافئ النفطي لتصل إلى ذروتها، بحسب الشركة.
وقال الرئيس التنفيذي لـ”مازارين إنرجي” في نوفمبر الماضي إن الشركة المدعومة من عملاق الاستثمار المباشر “كارليل غروب” تسعى أيضا إلى بيع ما يصل إلى النصف من حصصها في تراخيص استكشاف النفط الخاصة بها في تونس لتسريع تطورها.
ويؤكد الخبراء والمتابعون أن الإضرابات أحد أبرز العوامل التي تقود شركات الطاقة إلى الرحيل عن البلاد بشكل جماعي.
وألقى اعتصام الكامور في ولاية تطاوين (جنوب) بظلاله على عمل شركات الطاقة الأجنبية، حيث توقفت عمليات ضخ النفط في حقل بمنطقة الكامور بالجنوب التونسي لأكثر من شهرين إثر اعتصام محتجين يطالبون بوظائف.
وأمام تواصل توقف ضخ النفط، أرسلت الشركات الأجنبية النفطية الناشطة في المنطقة والمتضررة من وقف الإنتاج طلبا رسميا لرئيس البلاد قيس سعيد للتدخل وحل الخلاف بين المحتجين والحكومة.
وهددت في نص المراسلة التي نشرتها وسائل إعلام محلية، بوقف أنشطتها وطرد الآلاف من العاملين.
وفيما عجزت الحكومة عن الاستجابة لطلبات هذه الشركات وحماية مصالحها، في ظل تجدد الإضرابات والتهديد بوقف الإنتاج، وجدت هذه الشركات خيار النزوح الجماعي للتخلص من عبء إنتاج النفط في بلد يواجه صعوبة في استقطاب المستثمرين ويرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية حادة.

ويرى المتابعون أن النقابات التي تدعم الإضرابات ساهمت في تأجيج أزمة شركات الطاقة بدل التنفيس عنها، ولم تنجح مفاوضاتها ودور الوسيط الذي تلعبه في الضغط على المحتجين أو الحكومة للتخفيف من حجم الصعوبات التي باتت تواجه عملها.
وانعكس عجز الحكومات المتعاقبة منذ اندلاع ثورة يناير سلبا على صورة تونس بالنسبة إلى شركات النفط العالمية، وشكل فشلها في تحقيق استقرار سياسي واحتدام معارك السلطات على الصلاحيات والنفوذ فيما تبدو متجاهلة لوجودها ومشاغلها، النقطة التي أفاضت الكأس حسب استنتاجات الخبراء.
وأشار الخبير الاقتصادي عزالدين سعيداني في حديث لـ”العرب” إلى أن “الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية أمام ضعف الحكومة في معالجة مشاكلها الداخلية جعل البيئة الاستثمارية سلبية وطاردة للاستثمارات الأجنبية”.
وتابع “الكم الهائل من الإضرابات منفر للاستثمار الأجنبي أيضا”.
ولفت سعيداني إلى مسألة أخرى من شأنها أن تحبط المستثمرين الأجانب وهي منح مسؤولية الترخيص للشركات الأجنبية للبرلمان حسب ما نص عليه الفصل 13 من الدستور.

عزالدين سعيداني: الكم الهائل من الإضرابات يجعل البيئة الاستثمارية سلبية
وبرأيه فإن هذه الخطوة تحمل تداعيات سلبية، حيث لم يعد منح التراخيص سريعا وتقنيا كالسابق بل من ضمن مشمولات سياسيين غير مختصين ويتهمون هذه الشركات بنهب ثروات البلاد.
وعرف حزب ائتلاف الكرامة الشعبوي والمشارك في التحالف الحكومي، بانتقاده للشركات الطاقة العالمية متهما إياها بسرقة ثروات البلاد منذ سنوات كامتداد لأطماع استعمارية.
ويرى سعيداني أن “اتهامات ائتلاف الكرامة لهذه الشركات طاردة للاستثمار الأجنبي”.
ويعتقد خبراء أن بعض الأحزاب وقعت في فخ الشعبوية باتهامها لهذه الشركات لتحقيق مكاسب انتخابية، وهي اتهامات غير مسؤولة من شأنها أن تحرم البلاد من استثمارات مهمة تعود عليها بالمال والمرابيح.
ووصف الخبير الاقتصادي حسين الديماسي في حديث لـ”العرب” هذه الاتهامات بالخطاب الشعبوي من قبل بعض الأحزاب التي تستعمله في الدعاية الانتخابية. وتابع “هذا يضر باقتصادنا بشكل كبير. وبدلا من السقوط في الشعبوية كان الأجدى بالحكومة أن تشجع هذه الشركات على التواجد في البلاد وتوسيع نشاطها”، مستدركا “لكن هذا غير موجود اليوم”.
وتوسعت دائرة نزوح الشركات العالمية من تونس في السنوات الأخيرة وهو ما يطرح الخيارات البديلة للحكومة. وتقول وزارة الطاقة إنها ستدرس خططها المستقبلية وستعمل على التدارك من خلال استقطاب شركات أجنبية أخرى أو التعويل على القدرات المحلية، وهو ما يبدو صعبا بسبب محدودية الإنتاج وعدم القدرة على حماية مواقعه خاصة أثناء الاضطرابات.
ويعتقد السعيداني أنه “في حال النجاح في استقطاب شركات أجنبية جديدة، فهي ستفرض شروطا مجحفة على الحكومة”.
وسبق أن كشفت وكالة رويترز عن تدهور أوضاع قطاع الطاقة في تونس على مستويين اثنين على الأقل يتمثلان في عزوف الشركات البترولية العالمية عن الدخول في أي نوع من المغامرة في استكشاف الطاقة في تونس، وسعي الشركات العاملة في تونس أو ما تبقّى منها في تونس إلى التخلّص من التركة ومغادرة البلاد.
ويؤكد الخبراء أن عجز الحكومة عن حماية مواقع الإنتاج دفع هذه الشركات إلى المغادرة، حيث باتت تفضل حماية مصالحها في أماكن أخرى.
ويؤكد الديماسي أن ضبابية المشهد السياسي وكل ما يتعلق بطرق تسيير البلاد، إضافة إلى التحركات الاجتماعية لا يشجع بالمرة على جلب الاستثمارات الخارجية سواء المباشرة أو غير المباشرة.
وتوقع الديماسي أن تشهد الفترة المقبلة المزيد من الاضطرابات التي تشمل أهم قطاعات البلاد ومن ضمنها قطاع النقل.
ومع استمرار حالة الاحتقان داخل قطاعات حيوية، يتخلى المستثمرون الأجانب والمقرضون عن مساندة البلاد في أزمتها، حسب تعبيره.
ويستنتج خبراء الاقتصاد أنه من شأن تزايد نسق رحيل الشركات الكبرى أن يؤثر على نسق الاستثمار والاقتصاد المتردي.
ووفق بيانات أصدرتها وكالة النهوض بالاستثمار الخارجي التونسية (حكومية) الثلاثاء سجل الاستثمار الأجنبي المباشر تراجعا بنسبة 31.9 في المئة نهاية مارس 2021، حيث بلغ 341.9 مليون دينار مقارنة بـ501.7 مليون دينار في الفترة نفسها من 2020 (الدولار الواحد يساوي نحو 2.7 دينار).
كما تراجع حجم الاستثمار في قطاع الطاقة بـ15.5 في المئة، حيث بلغ 143.6 مليون دينار مقابل 169.8 مليون دينار في نفس الفترة، بحسب الوكالة.