شرطة الذائقة السمعية

نحن بحاجة إلى مقاومة النسيان عندما يتعلق الأمر بمصير ذاكرة أمة ومجتمعات يراد لها أن تفقد ذاكرتها بشكل متعمد وبغيض.
الاثنين 2024/09/02
البحث عن الأغنية العراقية غير المزيفة

في يوم ما قبل عقود وقفت أمام الموسيقار العراقي سمير بغدادي وبادرته بسؤال عن صحة حكاية مثيرة عنه قرأتها مرة وسمعتها مرات من كبار الفنانين العراقيين.

كان هذا الفنان يرأس لجنة لفحص الأصوات في الإذاعة والتلفزيون، تأمل بغدادي أحد الذين قدموا للاختبار وسأله “أي الأطوار تغني، المقام العراقي، الأغنية الريفية، أم البغدادية”، أجاب المُختبَر بثقة تنم عن جهل بعلوم الغناء “أنا قادر على أداء كل الأطوار”! لم يلتفت سمير بغدادي إلى علامات الاستغراب على ملامح زملائه في لجنة الاختبار، وقال له “على بركة الله أسمعنا ما لديك”.

لم يدم الاختبار طويلا، عندما حسم رئيس اللجنة الحكاية بنصيحة ثمينة مخاطبا الرجل الحالم بأن يكون مطربا، بجملة طالما وددت اقتباسها اليوم في الزمن الشاذ لاختطاف الأغنية العراقية “ابني أنت في تطفلك هذا على الأغنية العراقية، تمارس جريمة يحاسب عليها القانون، فلا صوتك يصلح للغناء ولا أنت على معرفة بالأطوار الغنائية، فأنصحك ألا تقترب من هذا الشأن لأنك تسهم في تشويه الذائقة السمعية. وإن أعدت الكرة ثانية فأنت معرض لطائلة القضاء”!

ليس مهما ما حدث بعد ذلك، فربما صار هذا الرجل أحد مطربي الحفلات الشعبية وسجل أشرطة غنائية أو أخذ بنصيحة الفنان سمير بغدادي ولم يقترب من الغناء بتاتا. لكن الأهمية تكمن اليوم في ما إذا كان بمقدور كبار الفنانين المجازفة بتقديم تلك النصيحة الثمينة، ومن يعتد بها أصلا، وهل بقي مثل هذا القانون للمحافظة على الذائقة السمعية؟

ما زلت أتذكر رد الفنان العراقي الراحل سمير بغدادي على شغفي الصحافي آنذاك، وقال نعم القصة صحيحة تماما، لكن ينبغي لك أن تسألني اليوم لو أعيد نفس المشهد هل بمقدوري أن أعيد نفس النصيحة؟

عندما يتعلق الأمر بالعراق، فالذائقة مختطفة مثل كل شيء والقانون مستباح ولا قيمة له أمام السلاح المنفلت، لذلك يصبح نوعا من البطر أن تطالب بقانون لحماية الذائقة السمعية إذا كان دم البشر يراق في موت عبثي!

فهؤلاء الجهلة في علوم الغناء لم يكتفوا بتحويل الأغنية العراقية إلى مجرد مراث طائفية فجة، بل سرقوا الألحان القديمة لكبار فناني العراق وركّبوا عليها نصوصا مترهلة، فارغة من أي مدلول، بما فيها الأغاني الوطنية وأغاني حرب الثماني سنوات مع إيران.

مَنْ من هؤلاء يشعر بالخجل وهو يعلق شارة العار الفني في سرقة لحن الدكتور علي عبدالله لقصيدة كاظم إسماعيل الكاطع “ياكاع ترابك كافوري”، بل هل تشعر المحطات الفضائية بأي مسؤولية أخلاقية وهي تعيد أغاني رثة مركبة على لحن الموسيقار جعفر الخفاف لقصيدة كاظم الرويعي “على ظهور الشقر شدو الخيالة”؟ أشك في ذلك!

هناك محاكاة ساخرة لتاريخ الأغنية العراقية ومن المؤكد أن اختلاق الأشياء عندما لا تستطيع فك أصولها يشوه الذائقة ويهين التاريخ بصلافة. وليس مثال لحني الفنانين الخفاف وعبدالله حالة نادرة، بل إن الأصل في ما يحدث اليوم هو استيلاء غير مشروع وتشويه لألحان عراقية خالدة.

لا يوجد من يحاسب هؤلاء على تمسكهم بالتفاهة، بل يتم الاحتفاء بهم عندما يسمح لهم بتقديمها من شاشات فضائية حكومية وحزبية تزعم بأنها عالية الحساسية الإعلامية!

إن السخافة أمر مسموح به اليوم في ما يسمى بلا عدالة “الغناء العراقي”، فإذا انعدم الصحيح يمكن لكل شيء أن يكون كاذبا، وليست الأغنية وحدها المختطفة عندما يعمل هؤلاء بسلطة الذاكرة الملفقة لتدمير مستقبل العراق، بينما نحن بحاجة إلى مقاومة النسيان عندما يتعلق الأمر بمصير ذاكرة أمة ومجتمعات يراد لها أن تفقد ذاكرتها بشكل متعمد وبغيض. فهناك من يزعم بصلافة أن الاستيلاء على ألحان أجيال من فناني العراق وتحويلها إلى أناشيد رثة لتمجيد الميليشيات ولصوص الدولة، أمر بمقدوره العبور بسهولة على الذاكرة الوطنية.

18