شرطة الدراما سلاح عاطل يؤلمه أن يعمل الآخرون

من السخرية أن يفرض أعضاء لجنة الدراما وهم متقاعدون، بحكم السن، وصاية على مشاهدين من جيل الأبناء والأحفاد.
الخميس 2019/05/23
حرب صامتة ضد الدراما

من زاوية النظر إلى البرامج والدراما المصرية لم يكن رمضان 2019 كريما، وأغلب ما سمح بإنتاجه قليل عددا، فقير خيالا. فما يهم الموظف هو الضبط والانضباط، بالمفهوم العسكري، وإنتاج أعمال بإكراهات رقابية صارمة، أيا كانت التضحية بالصدق الفني. والحصيلة القليلة الفقيرة من المواد الدرامية تعكس حقيقة الأوضاع الحالية في مصر، وتُخرج إلى السطح ما كان خافيا من صراع بين طرفين غير متكافئين هما أصحاب الموهبة وأباطرة الإنتاج والإعلام ممن يمثلون واجهة لأجهزة سيادية تستأسد بالأموال والنفوذ، وتستغني عن إدراك دلالات التأثير الإبداعي.

تجنبتُ مصطلح “القوة الناعمة” الذي ابتذله الخطاب الرسمي والإعلامي في الآونة الأخيرة، ولو كان جوزيف ناي يعرف اللغة العربية لندم على صوغ هذا المصطلح. ولم تكن مصر الصاعدة، وهي تمارس تأثيرها الإبداعي، بحاجة إلى غطاء اصطلاحي لا وجود له في خطاب دول ذات ثقل إبداعي وفني وعلمي؛ فالغنيّ يشغله اجتهاد متواصل لتأمين مكاسبه، بتجويد قدراته وتطوير أدواته وأدواره، في حين يزهو الفقير بما يفتقده، ويحصي ما يملك وما لا يملك، تفاديا لمعايرته بالنقص. ولا تملك مصر في ظل التصحر العمومي إلا طاقات مبدعيها، وبدلا من تشجيعهم واستثمار جهودهم يفاجأون بحرب صامتة؛ فبعض المجالات الإبداعية لا تتسم بالفردية، وتحتاج إلى مؤسسات تموّل وتنتج، وأخرى تسوّق الإنتاج، وتندرج الدراما في هذا النوع.

وقبل البث الفضائي كان المزاج العام في مصر، وربما في الجوار العربي، يتم ضبطه على إيقاع دراما رمضان بثرائها النوعي، محمولة على وفرة من الكتاب والمخرجين والفنانين والفنيين. وحين تكاثرت الفضائيات أتاحت قدرا كبيرا من الرواج، ومجالات عمل لنحو مليونين من العاملين في هذا المجال. وفاجأهم هذا العام خفض الإنتاج بقرار سيادي يشمل الرقابة على ما يتم السماح بإنتاجه، بعد ابتداع نافذة واحدة للإنتاج هي نفسها مالكة أغلب الفضائيات التي تبث الدراما. ومن يتمرد ويغامر بإنتاج مسلسل مختلف لن يجد جهة تشتريه وتبثه، في أسوأ تمثيلات لرأسمالية احتكارية لا يتسرب من قبضتها شيء؛ وبدأت السيطرة بتقليل الإنتاج، وإنعاش روح الشرطي في لجان رقابية يسوؤها أن يعمل الآخرون.

تم تعيين مكرم محمد أحمد المولود عام 1935 رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام الذي يتبنى الوصاية والرقابة وتحديد الصغائر من الكبائر
تم تعيين مكرم محمد أحمد المولود عام 1935 رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام الذي يتبنى الوصاية والرقابة وتحديد الصغائر من الكبائر

في أوروبا والدول العربية المتقدمة لا تشعر بوجود شرطي في الشارع، وإذا وجد فهو استثناء، ومن المستحيل أن ترى في يده دفتر مخالفات لتسجيل أرقام السيارات المخالفة أو غير المخالفة. وفي مصر خلق دفتر الشرطي قبل الشرطي، وسيحشر الشرطي وهو يؤتى كتابه بشماله. وتقاس كفاءة الشرطة بالقدرة على تسيير حركة المرور، لا بحجم الجباية بالحق أو بالباطل. وحين اخترعت لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أنيط بها دور الشرطي البليد، والويل لعاطل جاءته فرصة تقييم أعمال غيره، فلن يكون قاضيا نزيها، وإنما يتفنن في تطبيق لوائح ومعايير وضعها ولي النعم، وهو موظف يعنيه الضبط والانضباط لا الجودة.

قبل أن يبدأ شهر رمضان وجّه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام تحذيرا إلى شركات الإنتاج الدرامي من مخالفة المعايير “الأخلاقية” في الدراما والإعلانات، ملوحا بتسعيرة للعقوبات تصل إلى 250 ألف جنيه لكل لفظ “خادش للحياء”. وبعد أسبوع أنذر المجلس 12 قناة فضائية بتوقيع العقوبات الواردة في لائحة الجزاءات، بسبب “إيحاءات جنسية” وردت في أربعة مسلسلات تعرضها، وأوصاها بحذف “المشاهد المسيئة”.

واستعرضت لجنة الدراما، الأربعاء 15 مايو 2019، مخالفات تم رصدها بالمسلسلات المعروضة على الشاشات المصرية خلال الأسبوع الأول من رمضان، وأعلن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة مكرم محمد أحمد تقرير لجنة الدراما، وتضمّن 948 مخالفة في 18 مسلسلا، أكثرها ارتكابا للكبائر مسلسل “هوجان” الذي وقع في 160 مخالفة: 114 لفظا سوقيا، و16 مشهد عنف، و18 مشهد تدخين ومشهد شرب مخدرات ومخالفة لعدم احترام القانون، و2 إيحاءات جنسية، و3 لمخالفة كود الطفل، و7 لعدم احترام اللغة العربية.

قائمة “المخالفات” في أسبوع واحد تقول إن المسلسلات صورت في مواخير وساحات عراك، وتشي بأن الدراما يجب أن يشرف عليها إما مكتب الإرشاد لتنظيم الإخوان وإما اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، فتعرض على الرقابة فكرة المسلسل، والمعالجة الفنية، ثم السيناريو، مع استدعاء رقيب في الاستوديو، وخلال مراحل المونتاج. ثم توافق الرقابة على العمل النهائي خاليا من الأخطاء ومنزوع الحياة أيضا.

للإمام محمد عبده 944 فتوى، أصدرها طوال ست سنوات تولى فيها منصب مفتي الديار المصرية. هذا العدد من الفتاوى يصدر أكثر منه في شهر رمضان؛ فالعرض والتساهل من المفتين في فيسبوك والاتصالات الهاتفية وبرامج الفضائيات والمواقع الإلكترونية يوّلد الطلب، بالاستفتاء في سفاسف الأمور. وكأن مصر لم تكن مسلمة قبل إنشاء دار الإفتاء، وكأن الشعب كان ينظم مظاهرات في ليالي رمضان، بعد انتهاء عرض كل حلقة من المسلسلات، قبل إنشاء لجنة الدراما والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام برئاسة مكرم محمد أحمد.

 ربما يعاني العاطلون عن العمل عقدة ينفّسون عنها في الانتقام من الآخرين. كيف يتكلم مطاريد الجيل والخارجون على القانون في حوارهم؟ يكفي أن يشاهد أعضاء اللجنة فيلمي “الثور الهائج” و”الوجه ذو الندبة”، ليتأكد لهم أن الصدق الفني في الحوار هنا يختلف عنه في حوار فيلمي “لينكولن” و”آلام المسيح”. ومن السذاجة أن تحصي على صناع مسلسل عدد السجائر التي ينفثها ممثل يجسد شخصية مدخن مثل جمال عبدالناصر. أما “عدم احترام اللغة العربية” فهو أمر محيّر، فلغة الدراما يجب ألا تراعي إلا مقتضى الحال، وقد تطورت لغة التواصل في مصر كثيرا قبل وجود فيسبوك، ويمكن أن تميز عمر إنسان وطبيعة عمله ومستوى وعيه من مفرداته، ولن يصدق مشاهد شخصية محدودة الثقافة تتحدث الفصحى؛ فلم يعد المشاهدون أطفالا. ومن السخرية أن يفرض أعضاء اللجنة وهم متقاعدون، بحكم السن، وصاية على مشاهدين من جيل الأبناء والأحفاد.

أستعيد موقفين لمكرم محمد أحمد، الأول نشره في الأهرام، 26 ديسمبر 2016، بعد التضييق على برنامج لإبراهيم عيسى: “إن كانت مشكلة مصر هي إبراهيم عيسى… وإن كان حلها الصحيح الذي يقترحه البرلمان المصري هو مصادرته، وإغلاق قناة القاهرة والناس بالضبة والمفتاح، وإعادة تنظيم الصحافة والإعلام في مصر لضبط هذه الفوضى!، فبئس المشكلة وبئس الحل لأن مهامنا الضخمة ينبغي ألا تصغر إلى حد الاعتقاد بأن إسكات صوت واحد معارض هو الذي سوف يحقق أمن مصر واستقرارها!، ويساعد بسطاء المصريين على ابتلاع بلايا الغلاء!، ويمكن مخططي السياسة الاقتصادية في مصر من الهبوط بسعر الدولار إلى سعر أكثر عدلا لا يغبن الجنيه المصري إلى هذا الحد الظالم!، فربما يجوز أن نعيد النظر في أمر إبراهيم عيسى قربانا لمصالح هذا الوطن!… فالخطر على مصر واضح ومحدد يكمن في التسيب والإهمال وغياب العقاب والثواب وعدم الوضوح وقلة الحسم، وكلها أمراض يتحدث عنها إبراهيم عيسى”.

 والموقف الثاني بعد أقل من أربعة أشهر، أبريل 2017، بتعيين مكرم محمد أحمد المولود عام 1935 رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام الذي يتبنى الوصاية والرقابة وتحديد الصغائر من الكبائر. ولا أملك إزاء التحولات إلا تذكّر دعوة السيد المسيح: “ولا تدخلنا في تجربة”. آمين.

18