شخوص الروايات الحديثة ليسوا أبطالا بل كائنات غبية ومهزوزة

يُناقش الأستاذ الجامعي جيسي ماتز أستاذ اللغة الإنكليزية في كتابه «تطور الرواية الحديثة» بترجمة الأديبة والمترجمة العراقية لطفيّة الدليميّ، في ثمانية فصول هي مكونات الكتاب، لماذا وكيف لبست الرواية لبوس الحداثة؟ وهو يرى أن هذا الكتاب يمكن عدّه مقدمة لأشكال الرواية الحديثة والوظائف التي تنهض بها، إلى جانب مساءلة الدوافع والتقنيات والمعضلات والتطور المرتبط بالرواية الحديثة.
تخوم غير مسبوقة
كتاب «تطور الرواية الحديثة» الصادر حديثا عن دار المدى 2016، وقد صدر عام 2004 عن دار نشر بلاكويل بعنوان الرواية الحديثة مقدمة قصيرة، هو بمثابة مُساءلة للرواية الحديثة ووضعها في سياق التاريخ الطبيعي لتطورها، واستكشاف موقعها وتأثيراتها المحدثة في تأريخ الأفكار.
يبدأ الكتاب بتعريف إجرائي للرواية الحديثة باعتبارها العمل الذي يسعى في طلب موضوع جديد رغبة لعدم الانكفاء في مواجهة متطلبات الحداثة، ولكن لا يمكن أن توصف الرواية بأنّها حديثة إلا بالقدرة على التعامل مع المعضلات والإمكانيات الملازمة للحداثة؛ الأعاجيب التقنية، الفوضى الاجتماعية، الأحجيات السايكولوجية، نمط التغيّر وأيضا مواجهة الحداثة بأشكال تجريبية غير مطروقة في الكتابة، بالإضافة إلى وقفات وصفية صغيرة للغايات التي ابتغاها الروائيون المحدثون الأوائل، ثم تحديد الروايات التي ينطبق عليها وصف الرواية الحديثة، مع ذكر بعض الأمثلة، ثم يعقب هذا بتساؤلات ونقودات، ثم يتتبع التطورات التي صاحبت الرواية الحديثة منذ بداياتها المبكرة، وكيف طوحت التطورات المتأخرة ببعض الروايات في الوقت الذي ارتقت فيه بروايات أخرى، وكيف تطورت الرواية لتستحيل إلى الشكل الذي صارت عليه في أيامنا.
من أهم التغييرات التي جرت على الرواية الحديثة هي تلك التي أصابت الشخصيات وفقا لتغير المفهوم الطارئ على الواقع
يُحدِّدُ الكاتب هدفه مِن الكتاب بأنّه يسعى إلى أن يجعل منه خارطة تؤشر للقرّاء الشغوفين ما ينبغي عليهم استكشافه بالكثير من التدقيق. ويُفرد جيسي مارتز مساحة قصيرة وموجزة في الفصل الأوّل الذي جاء بعنوان الرواية الجديدة في حدود عام 1914، يبحث فيها عن تاريخ الرواية الحديثة.
في الفصل الثالث يتعقب الكاتب التغيرات التي جرت على الرواية، ويرى أن الشخصيات من أهم العناصر الروائية التي أصابتها التغيرات وفقا لتغير المفهوم الطارئ على الواقع، حيث وضع الروائيون الشخصية وسط فيض من الطوفان المتدفق لشعورهم بأهمية استكشاف القوى المؤسّسة للصورة الذاتية، الملاحظة المهمة أن الشخصية في الرواية الحديثة لا تُبدي أيّ سمة بطولية، بل هي الأسوأ من الشخصيات العادية وأقل جمالا وأقلّ إنجازا وأقل ذكاء، ومن حيث شيوع حسّ اللامسؤولية، أو العنف المصحوب بالغطرسة لدى الرجال.
أكذوبة الحضارة
|
يُفنِّد المؤلف في الفصل الرابع المُعضلات الجديدة، وجميعها متعلقة بالتقنيات الخاصة التي تجعل السّرد يكسر أفقية الزمن، وهنا يركّز على الزمن ومقولاته التي جعلت الروائيين الحداثيين يميلون إلى تغيير طبيعة المكان بذات الطريقة التي غيرت من طبيعة الزمان. وإن كان يرجع طبيعة هذه التغيرات إلى الحياة المدينية التي جاءت بطائفة جديدة من العلاقات الشخصية المتداخلة.
السِّمة اللافتة أن الرواية الحديثة غدت شكلا مكانيا، كما يسود الاغتراب الذي يجعل الشخصيات الروائية تميل إلى الشعور بأنها مطرودة من الأمكنة التي تتحرك فيها. لكن لا يخفى أن الجهد المبذول لتجذير الرواية في تفاصيل الحياة اليومية والواقعية ساهم في جعلها أكثر قدرة على الاستجابة للحياة في مناطق من العالم كان يُظنُّ على الدوام أنها بعيدة وهامشية. وقد مكّن التجريبُ الجماليُّ الروايةَ الحديثةَ من بلوغ تخوم غير مسبوقة في العالم الواقعي.
وبعد مراجعات للتجربة الجمالية والانشغالات الموضوعية للرواية الحديثة ينتهي المؤلف في الفصل السادس إلى مُساءلة الحداثة، خاصّة بعدما شوّهت الحرب العالمية الثانية معنى الحداثة حتى بدت الحضارة كذبة كبيرة.
يُقرُّ المؤلف بأن الرواية الحديثة لم تطوّر وسائلها الضرورية واللازمة للحصول على استجابة مُقنعة وكاملة تجاه الحداثة. فالروائيون كانوا يبتغون محاكاة كاملة للواقع. ومن الانتقادات التي وجهت إلى الرواية الحديثة إغراقها في الذاتية وهناك مَن يرى أن الرواية الحديثة كان عليها أن تصبح أكثر تجريبية مما كانت عليه.
يوقف الكاتب الفصل السّابع على التجديدات ما بعد الحداثية. ويشير إلى أن أدب النضوب كان علامة وَسَمَتِ النزعة ما بعد الحداثية، فرولان بارث يرى أن هذه النزعة أصابت الرواية الحديثة في مقتل وأذنت بنهايتها بعد أن سلبتها ميزاتها الأساسية.
الرواية الحديثة غدت شكلا مكانيا، كما يسود الاغتراب الذي يجعل الشخصيات الروائية تميل إلى الشعور بأنها مطرودة من الأمكنة التي تتحرك فيها
في مرحلة الحداثة ما بعد الكولونياليّة، يجمع الكثيرون بما في ذلك إدوارد سعيد على أنه لا يمكن إغفال الطريقة التي ساهمت بها الثقافة الطَّرفية (الهامش) في إغناء أشكال الرواية الحديثة بصورة بعيدا عن هيمنة المركز الكولونيالي، والعكس صحيح أيضا حيث ساهمت الأشكال الجديدة من الرواية الحديثة في إغناء الثقافات المنبعثة الطامحة إلى الارتقاء عبر مدها بالقدرة على تخييل الإمكانيات الجديدة وإعادة النظر في لغة القمع التي سادت في الحقب الكولونيالية.
كما لعبت هذه الأشكال أدورا فعّالة شديدة الخصوبة في الارتقاء الثقافي لعصر ما بعد الكولونيالية. لكن من المفيد الإشارة كما يقول المؤلف إلى التذكير بأن الرواية الحديثة ساهمت في تفكيك الهينمة الكولونيالية الثقافية من خلال الأساليب التي توظف فيها أنماطا لم يعتدها القرّاء، وتعددية الأصوات والاهتمامات الوقتية المزاحة، ومساءلة العلاقة بين الفرد ومجتمعه وكشف النقاب عن المفترضات المُسبقة بشأن العلاقة مع السلطة.