شخصيات منعزلة تؤرخ لـ20 عاما من التشظي

الكاتب أحمد سمير يقدم في روايته "قريبًا من البهجة" لوحات سردية تفكك المنظومات الاجتماعية من الداخل.
السبت 2019/01/26
شخصيات فككها الواقع المرير (لوحة للفنان شاكر حسن السعيد)

يبدو أن مرونة جنس الرواية، أغرت الكثيرين بالولوج إلى عالمها، مع أن المرونة التي أشار إليها أدين موير، كانت إشارة إلى انفتاح الجنس على حدود الأجناس الأخرى المتاخمة لحدوده، مع الاحتفاظ بسماته وعناصره الأساسية. لكن هناك كتابات تنتمي إلى عالم الرواية بحضور البعض من عناصرها، كالسرد والشخصيات، وفي ذات الوقت تنفصل عنه، بما توظفه لهذه العناصر من آليات جديدة داخل بنيتها، مثل رواية “قريبًا من البهجة” للكاتب الصحافي أحمد سمير.

يضع ناشر كتاب “قريبًا من البهجة” للكاتب الصحافي أحمد سمير، كلمة رواية على غلاف الكتاب، وهو ما يهيء أفق القارئ لتوقع عمل تتحقّق فيه العناصر الروائيّة الأساسية. ولكن ما إن تبدأ القراءة حتى تغيب صفة الرواية، وتحلّ صفة أخرى هي أقرب إلى الصّورة القلميّة السّردية، فيسرد الرّاوي العائد على وائل الصحافي، بحكم موقعه في الأسرة أو موقعه الصحافي عن شخصيات ارتبط بها الكاتب على المستويين الأسري والمهني.

شخصيات منعزلة

يرصد الكاتب من خلال الشخصيات التي يقدمها والأحداث التي مرت بها، واقع المجتمع في الحقبة التي تبدأ من مطلع التسعينات وصولاً إلى ما بعد أحداث ثورة 25 يناير 2011، كاشفا كافة التحولات التي أصابت المجتمع، وما تلاها من انكسارات للشخصيات التي يروي عنها. فأيمن حنفي صديق المدرسة الذي كان لا ييأس من الانتصار على الأشرار، استطاع المعلم صبحي أن يكسره بعدما عاقبه أمام المقهى بضربه على قدميه، وجعل أمه تشاركه في تربيته الناقصة، وهو ما اضطره للاختفاء، إلى أن رأى صورته على لافتة متربة على قسم السيدة زينب، تحتها: شهيد جمعة الغضب 28 يناير 2011. إلى أن تختفي تمامًا عقب تجديدات قسم السيدة زينب في 2013، في إشارة إلى المحو تمامًا لكل ما له علاقة بالثورة. أما شخصية هدى والي فينتقد من خلالها الكاتب التغيرات التي تحدث للشخصيات، والتي تظهر الطبقية والفوارق الاجتماعية. فبناء الشخصية يقول إنها مرنة للتلون والتأثر بمستجدات العصر، والانصياع لنسق الاستهلاك، حتى ولو كان مقابل هذا التخلّي عن المشاعر والأحاسيس.

روح خاصة للنص
روح خاصة للنص

لا يتوقف الكاتب وهو يعرض لصوره القلمية عند فئة معينة من الشخصيات، وإنما يقدم كافة الفئات بكافة توجهاتها الدينية كما في شخصية أسامة عودة مظهرًا الوجه القبيح من أدعياء الدين، وتبريرهم الدين والطاعة من أجل إرضاء رغبات ذاتية. وكذلك تحضر الشخصيات المسيحية والليبرالية والبلطلجية كما في صبحي وزه، وغيرها من الشخصيات التي تعد بمثابة تمثيل لفئات المجتمع.

تتميّز اللوحات السردية أو الصور القلمية بالاستقلال سواء من حيث الشخصية التي هي محور الصورة القلمية أو من حيث علاقتها بالراوي، فالعلاقة الجامعة بين الراوي وهذه الشخصيات، تتمحور حول علاقة زمالة في المدرسة، أو علاقة قرابة كحالة الخال الدكتور أسامة عودة، والحسين منصور الذي هو أخوه الأكبر، وبالمثل سمية ابنة خاله والتي كانت مرتبطة لفترة بأخيه الحسين، وبالمثل أخته أسماء.

يتابع الرواي بحكم موقعه القريب من بؤرة الحدث، مختلف جوانب الشخصية وإن كان يركز على التحولات التي أصابتها، مظهرًا الفوارق بين هذه الشخصيات، ومدى قدرتها على الصمود أمام إكراهات الحياة. الرابط الأساسي الجامع بين هذه الشخصيات خلافًا للراوي الذي يستحضر مواقف معينة لها، هو الهزائم المتلاحقة التي منيت بها على اختلاف موقعها منه وأيضًا على اختلاف أيديولوجياتها، فبعض ما يرويه يأتي منفصلاً وكأن كل شخصية منعزلة عن محيطها الاجتماعي، ثم ما يلبث أن يعود ويضعها في إطار جماعتها، وما يحدثه هذا الوضع من تشابكات وصراعات بين الشخصيات، على نحو ما اتسمت به شخصية سمية التي كانت معارضة للجميع، وبالمثل شخصية أخته أسماء، والنهاية الدراماتكية التي انتهت بها حياتها.

تميل الشخصيات إلى تفكيك منظومة الإخوان من الداخل، فسمية وحذيفة بوصفهما ابني إحدى قيادات الجماعة، قاما بتفكيك هذه الأسطورة، وتقديم صورة حيّة من الداخل عن الصراعات والانشقاقات على مستوى أفراد العائلة وليس فقط على مستوى أعضاء الخارج، فسمية تمردت على كل تقاليد الجماعة وخلعت الحجاب، ورفضت مرسي، بل كانت تسخر منه عندما رشح نفسه، وتظاهرت ضدهم أيضًا، أما حذيفة وهو طالب في المدرسة فكان متمردًا ويهرب دومًا من طقوسهم الجماعية وفي أحيان يسخر منها. رغم الانفصال الذي تبدو عليه الوحدات إلّا أنّ ثمّة ثيمة مشتركة تتردد داخل بعض هذه الوحدات، وهو ما يقربها إلى المتتالية القصصية، حيث بعض عناصر الحكي كالشخصيات أو المواقف تحضر في وحدات أخرى.

متتالية قصصية

تميل الحكاية إلى التشظي، فلا توجد حكاية يمكن تلخيصها وإنما ثمّة حالات موزعة على الوحدات السردية، وهذه الحالات كفيلة بخلق روح خاصة للنص، تجعله متشابكًا مع الواقع تارة ومتعارضًا معه لرفضه تارة أخرى. لكن أهم ما يبقى لهذا العمل، هو أنه جاء أشبه بمراجعة لثورة يناير وما تلاها من أحداث، فعرجت على صعود الإخوان إلى الحكم، والتمرد على حكمهم، وفترات عدم الثقة بين الشعب والجيش وما أعقبها من صدامات وصلت إلى زهق أرواح كثيرة.

لا تأتي الثورة أو حكم الإخوان من وجهة نظر واحدة، وإنما من وجهات نظر متعددة. ومن ثم كانت الصورة الصادقة التي قدمتها الرواية ليست في الأحداث التي اقتربت من التاريخ حيث سردت الكثير من المنعطفات التي مرت بها الثورة، والضحايا الذين سقطوا في كل منعطف، ومع الأسف ما قابل هذا من ضياع لدمائهم، وإنما قدمت صورة حقيقية لصراع داخلي؛ داخل الأسرة الواحدة، انقسامها حول الثورة، فأسرة أسامة عودة كانت منقسمة فسمية رفضت مرسي وحكم الإخوان، وكانت تحرض عليه. وعلى العكس كانت عايدة عودة رافضة للثورة تمامًا بل عملت على منع أبنائها من النزول إلى المظاهرات. نفس الشيء نراه في شخصية كارولين الأعصر التي وصفت في البيت بالمسيحية العبيطة لأنها لم ترشح شفيق كباقي الأقباط وانضمت إلى مرسي.

تميل اللغة إلى السخرية، وتأتي السخرية من توظيف وتلاعب بكلمات تراثية توظفها لتنتج دلالة جديدة، على نحو “قل إن الضابط الذي تفرون منه، فإنه ملاقيكم” و”حين أيقن محمود شعلان أن القبض عليه آت لا ريب فيه؟” وغيرهما من التعبيرات التي غيّرت المدلول إلى آخر ساخر. ويتخذ الراوي من الصراع الدائر بين الشخصيات، حيلة لانتقاد بعض الظواهر التي حلّت على المجتمع المصري، كحالة التجاوز في حقوق الآخرين والتدخل في خصوصياتهم. وهي أمراض اجتماعية وجدت ضالتها بعد الثورة وحالة الانفلات الأمني.

وتتخذ الشخصيات سمات الشخصيات الروائية، حيث إشكاليتها، على نحو ما نرى الضابط يونس الدجوي، الذي تحوّل إلى النقيض وصار يؤذن للصلاة بعدما كان يتحين وقت الفجر للقبض على الإخوان. وبالمثل محمد رفيق الذي استطاع أن يتحرّر من أفكار الجماعة إلى أن انتهى به الحال بعد خيبات وانكسارات، فعاد ورمّم صداقاته القديمة، كما تخففت زوجته من الحجاب، بل رآه الراوي أمام سينما جلاكسي في طابور لدخول فيلم كوميدي.

الغالب أنّ مُعظم الشخصيات التي يرتبط بها السّارد بعلاقات صداقة أو زمالة دراسة، يستحضر تاريخها، الذي انقطع عنه، إلى أن يصل  لحظة اللقاء التي جمعت الكل، ألا وهي الثورة، فيتمّ اللقاء وكأن الثورة هي المخاض الذي ولد الجميع فيه من جديد. وهو ما يؤكد على دلالة مهمة يحرص الراوي على إبرازها تتمثل في الحفاظ على وهج الثورة.

ونذكر أن رواية "قريبا من البهجة" فازت مساء الجمعة بالمركز الثاني في جائزة ساوريس لشباب الكتاب بالقاهرة.

15