شجاعة أن تكون غير محبوب

قد يبدو عنوان هذا المقال غريبا، فالبشر يقضون حياتهم بأكملها أحيانا بحثا عن الحب، محاولين إشباع أرواحهم منه سواء حب أب أو أم أو صديق أو زوج أو حتى عمل وهواية. لكن ماذا إن ملك الإنسان شجاعة أن يكون غير محبوب؟
طرح هذا التساؤل كتاب يحمل العنوان ذاته لهذا المقال، وهو من تأليف إيشيرو كيشيمي وفوميتاكي كوجا، وترجمة مصطفى الورياجلي، للمركز الثقافي العربي. يبحث الكتاب باختصار في فلسفة ألفرد أدلر (1870-1937) وهو أحد أشهر الفلاسفة والمعالجين النفسيين في العصر الحديث ومؤسس مدرسة علم النفس الفردي.
هذه الفلسفة تقوم على شجاعة أن يكون الإنسان فردا لا يبحث عن قيمته في عيون الآخرين. وفي حين يرى سيغموند فرويد أن سلوك الإنسان محكوم بسببية مرتبطة بماضيه وتنشئته في الطفولة، يرى أدلر أن الدافع الذي يحرك معظم البشر هو الغائية والسعي وراء "التفوق" (Superiority)، ويمكن لبعض العوامل أن تقف حائلا دون هذا المسعى متسببة في الشعور بالدونية أو النقص وعدم الكفاية.
محاولين التعريف بهذه الفلسفة، يقدم لنا مؤلفا الكتاب حوارا متخيلا بين فيلسوف حكيم وشاب قارئ، تتعارض أفكارهما وطريقة تقييم كل منهما لسلوك الأفراد والعلاقات في محيطهم الاجتماعي. حوار قد يلمس فيه القارئ جزءا كبيرا ومهما من الحياة، حيث يطرح نماذج سلوكية لأشخاص قد نصادفهم في العائلة والشارع وعلاقات الصداقة وحتى العمل.
في إحدى المرات، يضرب الشاب مثالا عن صديقه المنطوي والذي لا يكاد يغادر غرفته إلا للضرورة، وهو يكاد يجزم أنه يشعر باكتئاب عميق سببه طفولة قاسية أو ظروف عمل وحياة محبطة، لكن الفيلسوف كعادته يعارضه الرأي مقدما قراءة أشمل لسلوك الشاب.
إنه يسلط الضوء كل مرة على الغاية/النتيجة المستقبلية/الهدف/ من سلوك الإنسان وليس السبب/الماضي. فهو يحاول التركيز على أكبر نقطة ضعف لدى الإنسان وهي رغبته الملحة في التفوق عن بني جنسه، تلك الرغبة التي حكمت حضارات وشعوبا فارتقت بها.
في حالة هذا الشاب، يرى الفيلسوف أنه يريد إثارة الانتباه إليه، وبناء على معلومات مدّه بها صديقه رأى الحكيم أن الشاب في حاجة ماسة إلى اعتراف والديه بقيمته وهي القيمة التي لا يحسها إلا إن مرض أو تعب أو أغلق على نفسه باب غرفته.
وعلى هذا المنوال يتناقش الشاب والفيلسوف ويعيدان تشكيل الأفكار من جديد.. حتى نكتشف أن ما يتحكم فينا هو الغاية. الغاية في الاعتراف بأهميتنا. وثمين ما نقوم به من إنجازات هو ما يقودنا إلى العمل والإنجاز وتقديم ما نستطيع أو حتى العزوف عن كل ذلك. خذ مثلا موظفا يظهر جدية ونجاحا في العمل لكنه لا يحظى بتقدير رئيسه وزملائه، معنويا كان أو ماديا، ستجده عن غير وعي منه كره العمل وأصبح متقاعسا وصار لا يبالي بالالتزام بالتوقيت والمهام وغيرها، قد نصفه في عصرنا الحالي بفقدان الشغف وقد يقول لك هو إنني كرهت العمل لأنني لم أحصل على ترقية أو أنني لا أحظى بزيادة في راتبي لكن ما تقوله فلسفة أدلر هنا أن سلوكه نتيجة إحساسه بعدم التقدير الذي كان يبحث عنه.
الدرس الأكبر الذي قد نتعلمه من فلسفة أدلر هو أن نتعلم العيش دون أن ننتظر اعترافا بقيمتنا من الآخر. أن يتعلم المرء أن يكون ابنا جيدا وصديقا صدوقا وموظفا يؤدي واجبه ويرى قيمته في البداية في عين نفسه وأن يعترف لنفسه بأنه إنسان ذو قيمة، حتى إن ذهبت الوظيفة أو تغير الأصحاب أو غادره الأحبة.
نحن بالفعل نفتقد اليوم لشجاعة أن نكون غير محبوبين ونكسر رغبتنا في إرضاء الآخر والحصول على اعتراف منه بأهميتنا.