شتولتنبرغ "توني بلير النرويج" والتفاوض مع الدببة

يشهد الناتو، كمؤسسة تحالفية عسكرية عملاقة، هذه الأيام، تناقضات كبيرة، يتعرّض لها الوعي في أوروبا عموما، ما بين القوة والاقتصاد والمعرفة والسياسة والديمقراطية، فبدا الأمر وكأنهم فقدوا إيمانهم بتلك المفردات التي كانوا أول من نظّر لها وناضل في سبيلها وطبّقها في أنحاء مختلفة من القارة العجوز.
لأن شعوب العالم لم تعد تؤمن بالحروب، كما كانت تؤمن بها من قبل، ويعزّ عليها استبدال الاستقرار الاقتصادي والحياة الهانئة داخل الدول الوطنية والتجمعات الكبرى، فقد أصبح منصب الأمين العام لحلف الناتو، منصبا يكاد يكون دبلوماسيا اقتصاديا يستخدم لتسخين المفاوضات أو تبريدها، حسب الحاجة وحسب تطورات الأحداث، سيما الأحداث الطارئة مثل تلك التي تقدّمت بها روسيا خطوات نحو الغرب، حين ابتلعت جزيرة القرم، ملقية في سلة المهملات بكل مصالحها وتفاهماتها مع أوروبا والولايات المتحدة.
في هذه الأجواء، تنتهي فترة تكليف راسموسين، ليحلّ محله أحد أبناء دول اسكندنافيا أيضا، ينس شتولتنبرغ رئيس وزراء النرويج السابق الذي لم يكد يترك منصبه بالاستقالة أواخر العام 2013 حتى تم ترشيحه لتولي المنصب العسكري الأكثر أهمية في دول الاتحاد الأوروبي.
رجل اقتصاد من جديد
وكما كان راسموسن رجل اقتصاد، فإن شتولتنبرغ هو الآخر كان قد درس الاقتصاد في جامعة أوسلو، وشغل منصب وزير المالية في بلاده، وترأس حزب العمل النرويجي بدءا من العام 2002، وتولى وزارة البيئة ورئاسة الوزراء، وعرف عنه سلوكه غير المتوقع في سبيل التقرّب إلى الناخبين، وضمان أصواتهم في الانتخابات، فقد تناقلت وكالات الأنباء صوره بعد أن قرّر العمل كسائق لسيارة أجرة لمدة يوم واحد ليكون قريبا من المواطنين، وليستمع إلى شكواهم وهمومهم، قبل التقدّم ببرنامج حزب العمل للانتخابات العامة، فارتدى البدلة الرسمية للسائقين، وتنكّر بنظارة شمسية كيلا يتعرّف إليه أحد، وقال فيما بعد :"أردتُ من وراء ذلك معرفة مخاوف الناخبين الحقيقية، ومن هنا اختيار التاكسي لأنه من الأماكن القليلة التي يتشاطر فيها الناس وجهات نظرهم الحقيقية”، ولكنه وبعد تقدّم المعارضة النرويجية على حزبه قال من جديد:”لست أفضل سائق تاكسي، ولكن كان الأمر ممتعا لي أن أحاول العمل كسائق تاكسي والتحدث مع الركاب”، ولكن إحدى المواطنات اكتشفت شخصيته الحقيقية وقالت له: “هذه القيادة من اسوأ ما رأيت…ولكن على الأقل ما زلت على قيد الحياة".
بدأ شتولتنبرغ حياته السياسية راديكاليا معارضا لحلف الناتو، قبل أن يصبح مؤيدا له، حتى أنه خرج في مظاهرات في شبابه ورشق السفارة الأميركية بالحجارة ردا على قصف سلاح الجو الأميركي في العام 1973 لهايبونغ
ولكن الفضيحة التي تلت ذلك، بيّنت أن مكتبه ومستشاريه كانوا قد دفعوا مبلغ ”500” كرون لعدد من المواطنين كي يركبوا في التاكسي، وقال مستشار العلاقات العامة لرئيس الوزراء : "كان الهدف هو ضمان ألا يظل رئيس الوزراء يجوب الشوارع بحثا عن راكب".
معارض تاريخي لحلف الناتو
وحين هزم حزبه في الانتخابات انسحب شتولتنبرغ من الحياة السياسية، نزولا عند رغبة الناخبين، ليعلن الناتو في بيان له أنه قد تم تعيين رئيس وزراء النرويج السابق أمينا عاما لحلف شمال الأطلسي، وكان شتولتنبرغ قد أعلن استقالة حكومته رسميا بعدما قدمت آخر موازنة لها إلى البرلمان، قبل تشكيل حكومة جديدة بقيادة إرنا سولبرج، زعيمة حزب المحافظين النرويجي الذي فاز في الانتخابات، وقال الأمين العام الجديد لحلف الناتو "إن الأحداث الأخيرة في أوكرانيا أظهرت أهمية الناتو".
وقال شتولتنبرغ للصحفيين بعد اجتماع، أبلغ فيه قيادة حزب العمل النرويجي الذي كان يترأسه، تخليه عن زعامة الحزب: "إن الناتو كان دوما صمام الأمان للدول الأعضاء على مدى عقود".
قاد شتولتنبرغ سيارة أجرة في شوارع النرويج ليتعرف على أوضاع المواطنين ليتضح فيما بعد أن الركاب الذين استقلوا سيارته كانوا قد قبضوا مكافآت من مستشاريه
وأضاف شتولتنبرغ “إنه حلف مهم وظهرت أهميته في الأسابيع الأخيرة بصفة خاصة والتي شهدت أحداثا درامية في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم”، وكان شتولتنبرغ قد بدأ حياته السياسية راديكاليا معارضا لحلف الناتو، قبل أن يصبح مؤيدا له، حتى أنه خرج في مظاهرات في شبابه ورشق السفارة الأميركية بالحجارة ردا على قصف سلاح الجو الأميركي في العام 1973 لهايبونغ، ولكنه حين أصبح رئيسا لوزراء النرويج قرّر إشراك بلاده في التحالف الدولي في أفغانستان ثم في النزاع في ليبيا في العام 2011.
علاقات شخصية ممتازة مع روسيا
وبقي شتولتنبرغ بعيدا عن الحياة العسكرية، منشغلا بالاقتصاد، ولكنه اشتهر خلال العقد الماضي بفلسفته الخاصة التي اهتمت بإرساء فن التفاوض في العلاقات الدولية، ويلاحظ المراقبون أنه أول رئيس للناتو يتحدّر من دولة حدودية مع روسيا (هاجس الأوربيين اليوم) كما أنه يمتلك علاقات ممتازة مع موسكو، وذكرت جريدة “افتينسوبستن” النرويجية أن "خبرة شتولتنبرغ والنرويج بصفتها جارة لروسيا ستكون بالتأكيد مفيدة في الملف الروسي".
وأضافت “لكن طبيعة العلاقة التي يجب أن يقيمها الغرب مع روسيا تتقرر في أماكن أخرى خارج هيئات حلف الأطلسي” وكانت الإشارة إلى واشنطن بالطبع.
ذكرت جريدة «افتين بوستن» النرويجية أن خبرة شتولتنبرغ والنرويج كجارة لروسيا ستكون بالتأكيد مفيدة في الصراع الدائر، معتبرة أن طبيعة العلاقة التي يجب أن يقيمها الغرب مع روسيا تتقرر في أماكن أخرى خارج هيئات حلف الأطلسي
يتزامن هذا التحرك الدبلوماسي التفاوضي للناتو مع تحرك عسكري مواز، فقد نشر الناتو مؤخرا طائرات استطلاع من نوع “اواكس” في بولندا ورومانيا بالقرب من الحدود الأوكرانية بينما أرسلت الولايات المتحدة طائرات مقاتلة وطائرات مراقبة إلى المنطقة، وقالت مجلة “الايكونوميست” إن الأزمة الأوكرانية "أعطت مجددا دورا للحلف الأطلسي..وبفضل فلاديمير بوتين لم يعد الحلف بحاجة إلى تبرير أسباب وجوده".
ابن البيت السياسي
يتحدر شتولتنبرغ من عائلة سياسية، فوالده كـان وزيرا للدفاع ووالدته كارين شتولتنبرغ وزيـرة للخارجيــة، وقد عــاش حياته كلهـا في الأوساط السياسية النرويجيـة التي عرفــت بالسياسات البــاردة، وكان قد ولد في أوسلو في العـام 1959، والتحق بجامعة أوسلو وتخرج من كلية الاقتصاد فيها في العام 1987، وحصل على شهادة المــاجستير وكانت أطروحته بعنوان "تخطيط الاقتصاد الكلي في ظل عـدم اليقين”، ليعمل في الصحافة الاقتصــادية، وينخرط في العمل الشبـابي العمالي، وشغــل أول منصــب رسمــي حكومـي لـه كوزيـر للـدولـة في وزارة البيئـة خلال عــامي 1990 و1991، ودخل البرلمان النرويجي في العام 1992، وتولى حقيبة الصنـاعـة وحــاول تقديــم نفســه على أنه “تــوني بلير النرويــج".
استمرت النرويج بلدا مسالما، وحين أصبح شتولتنبرغ رئيسا لوزرائها قرر إشراك بلاده في التحالف الدولي في أفغانستان ثم في النزاع في ليبيا في العام 2011
في العام 2003 أصبح شتولتنبرغ عضوا في الجمعية الأوروبية للتوجيه العلمي التي أسسها “ميشال روكار” و”دومينيك ستراوس كان” كمنبر لليسار الأوروبي.
المهمة المستحيلة
كان لمرحلة راسموسن، التي أدار بها مصالح الناتو بعقلية الاقتصادي الدور الكبير في تنشيط هذه المؤسسة التي أصبحت هرمة مع الزمن، ومع تبريد الجبهات في العالم، ولكن المرحلة التالية، مرحلة شتولتنبرغ التي أريد لها أن تكون مرحلة تفاوض ودبلوماسية، ستشهد المزيد من التصعيد من الروس، الذين يجدون الفرصة سانحة في ظل غياب الفلسفة العالمية التي تفرض نفوذ الأمم، واستبدالها بالقوة الناعمة، أمام شعوب ذاقت طعم القوة وتم تدمير قواها (الاتحاد السوفيتي كمثال ناصع).
وسيكون على شتولتنبرغ أن يصنع تلك الفلسفة المفقودة، لإقناع الأطراف كلّها، بما لا يمكن أن يقتنع به أحد، فالقوة لا تغيّر أفكارها إلا بالقوة… الرقص برومانسيــة مع الدببــة.