"شبرا" معرض مفتوح لمنتجات عيد الميلاد في مصر

تحولت منطقة شبرا بوسط القاهرة إلى معرض مفتوح لمنتجات أعياد الميلاد، يستقطب جمهوره من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، فيقبلون على شراء الهدايا والأشجار الاصطناعية استعدادا للاحتفاء بالمناسبة تماما كما يجتمعون أيضا على الاحتفاء بمناسبة المولد النبوي، في رسالة واضحة عنوانها التسامح، لطرد التطرف والاحتقان الطائفي بين أبناء مجتمع مصري واحد.
القاهرة - أصبحت منطقة شبرا معرضا مفتوحا لمنتجات أعياد الميلاد، تتصارع فيها ألوان الأشجار الاصطناعية الخضراء، مع موجات لونية من الأحمر تعبر عن التشكيلة المتنوعة من هدايا ودمى بابا نويل متعددة الأحجام، وكميات ضخمة من الأشجار الاصطناعية الخضراء لترسم لوحة فنية فريدة.
تتماشى الشوارع الممتلئة بمنتجات أعياد الميلاد مع الطابع الفسيفسائي ومتعدد الثقافات لمنطقة تمتاز بمزيج بشري فريد يتضمن أجانب ومصريين وتركيزا ملحوظًا للمسيحيين، لأسباب تاريخية تتعلق بتصنيفها كامتداد للحي القبطي في الأزبكية بوسط القاهرة.
يجذب التواجد الملحوظ للمسلمين في محال بيع مستلزمات الكريسماس الأنظار، وثمة محجبات ومنقبات يقبلن على البضائع بصحبة أبنائهن، ويعتبرن الأعياد فرصة لانتزاع الفرحة في زمن صعب محمل بالأعباء، فيتعاملن مع بابا نويل كدمية جميلة تدخل البهجة أكثر منها شخصية خيالية ترتبط بعيد الميلاد عند المسيحيين الشرقيين.
لا يهدأ الشاب الثلاثيني أمير غطاس، عن الحركة والرد على استفسارات الزبائن حول الهدايا المناسبة التي تتماشي مع قدراتهم المالية في معرضه الكبير الذي خطف الأنظار من المنافسين بفضل صناعته شجرة ضخمة يتجاوز ارتفاعها سبعة أمتار قد وضعها في الشارع الرئيسي، ممتلئة بقطع من الأكاليل والحلي والأرقام والنجوم.
يقول غطاس، لـ”العرب”، إن طقوس أعياد الميلاد في حي شبرا تحمل خلال العام الحالي طبيعة خاصة، فزبائننا مختلفون من المسلمين والمسيحيين، الأمر الذي تكرر قبل أسابيع مع حلوى المولد النبوي في معرض ملاصق له.
تحولت الشجرة الاصطناعية المعتمدة في تكوينها على المعادن إلى ملتقى للراغبين في التقاط صور سيلفي عبر هواتفهم المحمولة، بعضهم يتوقف بسيارته خصيصا من أجلها، دون ممانعة من العمال الذين يتبارون في تقديم خدمات لتصوير السيدات وأبنائهن، على حد سواء.
جمهور متنوع
تشهد حركة البيع انتعاشا العام الحالي مع انخفاض الأسعار عن العام الماضي، في أعقاب لجوء التجار المحليين لشراء الخامات من الصين وتصنيعها محليا للاستفادة من التخفيضات الجمركية على مستلزمات الإنتاج التي تقل كثيرا عن البضائع تامة الصنع.
استوردت مصر العام الماضي منتجات خاصة بالكريسماس بنحو 12 مليون دولار، موزعة بين الأشجار والزينة الخاصة بها مثل الكرّات والأجراس والنجوم وعلب الهدايا الفارغة وورق التول والحروف، وفقا لشعبة الأدوات المكتبية ولعب الأطفال، التابعة لاتحاد الغرف التجارية.
تجد المنتجات المتعلقة بالديانة المسيحية زبائن من المسلمين ضموها إلى قائمة الهدايا التي يقدمونها في رأس السنة، مثل “المغارات” و”المزاود” التي تتضمن نموذجا شبه مسرحي لقصة ميلاد السيد المسيح في “مزود”، وهو عبارة عن حوض مصنوع من الخشب أو الحجر ومخصص لتغذية الماشية.
وتتضمن المجسمات المصنوعة من الجص أو الخشب تجسيدا للمسيح رضيعا، والسيدة العذراء ويوسف النجار مع بقرة وحمار مستمدة من نبوءة أشعياء، لكن المصممين المحليين أضافوا تقليدا بوضع الملوك المجوس الثلاثة والرعاة للإيحاء باجتماع الأغنياء والفقراء حول المسيح.
تقف مجسمات لجوقات من الموسيقيين حاملين القيثارات والأبواق ومرتدين ملابس “سانتا كلوز” أمام الزائرين، لكنها لا تجد رواجا كبيرا، فرغم انخفاض الأسعار تظل فوق قدرات الشريحة الأغلب من المصريين، فالواحد منها لا يقل عن 200 دولار، على عكس الصغيرة التي لا تتجاوز دولارا ونصفا. تحوي أشجار الصنوبر الاصطناعية القائمة على التجميع تنويعات في أصنافها بالسوق المحلية لتبلغ نحو5 أنواع متباينة من درجات اللون الأخضر حتى الأزرق، وتتنوع إضاءتها بواسطة مصابيح الليد الصغيرة أو اللمبات الكبيرة، ولا تشهد السوق أي تواجد للأشجار الطبيعية مرتفعة الأسعار، ولا تسمح البيئة المحلية بنموها.
أشارت فاطمة محمد، التي جاءت بصحبة طفلها لاختيار شجرة ومجموعة من أسلاك الزينة، إلى أن أسرتها تخطط للاحتفال بعيد الميلاد منذ بداية شهر أكتوبر، وتدخر أموالا لقضاء إجازة رائعة تعطي دفعة معنوية للعام الجديد، وطيّ صفحة عام انتهى بآلامه وأحزانه وتوقع الأفضل في المستقبل بإدخال السعادة على قلوب الأطفال.
يعكس انتشار المعارض في العام الحالي تغيرات أحوال الأقباط بعهد الحكومة الحالية، فالكثير من المعارض تعرض منتجاتها خارج المحلات وتحتل أماكن بشوارع رئيسية مزدحمة دون اعتراضات من السلطات المحلية التي تشن حملات مداهمة دائما لا تخلو من غرامات ومصادرات لكل من تعتدي بضاعته على فصل الصيف وليس الطريق.
ثقافة التسامح
يؤكد غطاس، أن حركة البيع والشراء تعزز اطمئنان الزبائن بفضل الاستقرار الأمني، فقبل سبع سنوات كانت المحلات تخشى تعرضها للاعتداء لمجرد وضع بضائع الاحتفال بأعياد الميلاد، وكان المسلمون يتخوفون من رد فعل بعض التيارات الدينية المتطرفة حال مشاهدتهم يشترون بضائع يُفترض أنها مخصصة للمسيحيين.
اتخذت الحكومة الحالية قرارات غير مسبوقة في إطار تعميم ثقافة التسامح بالسماح ببناء المزيد من الكنائس وتقنين أوضاع الكثير منها، كما افتتحت أكبر كاتدرائية للأقباط في العاصمة الإدارية بجوار مسجد الفتاح العليم، في رسالة تأكيد للمساواة بين أتباع الديانتين.
يظهر التواجد الملحوظ للمسلمين في معارض شبرا، انحسار التأثيرات الفكرية للتيارات الدينية المتشددة التي لا تزال حتى الآن تثير جدلا بين مشروعية تهنئة الأقباط بأعياد الميلاد وتحريم الاحتفال به، وتعتبر اقتناء مجسمات بابا نويل نوعًا من الشرك.
يشهد العام الحالي رواجًا لمنتجات رجل الثلج المصنوع من الخيوط والأسلاك المعدنية تماشيا مع رغبات الأطفال الذين تعلقوا بعالم الكارتون خاصة أفلام “فروزن” و”ذا غرينش” وإمكانية توظيفها كديكور أمام المنازل أو وضعها في الشرفات لتشبه تمامًا “فوانيس رمضان”.
أوضح الخمسيني أبومينا، الذي يبيع أشجار أعياد الميلاد في أحد شوارع شبرا، أن شهر ديسمبر يمثل كرنفالاً بشوارع الحي العريق، فالموسيقي تصدح في كل مكان بأغان أجنبية عن الكريسماس التي تمتزج بدقات أجراس الكنائس التي تستعد هي الأخرى للأعياد، وتمثل تلك البضاعة مصدر الرزق الذي يعتمد عليه الآلاف من التجار وورش الصناعة الصغيرة.
وبدأت ورش محلية مصرية إنتاج نماذج من بابا نويل قبل عامين، في خضم أزمة العملة وارتفاع أسعار صرف الدولار وتطور إنتاجها باستمرار في محاولة للوصول إلى منتج يقترب من المستورد على مستوى ضبط تفاصيل وجه الدمية والذقن وإخراج نماذج خالية من العيوب الصناعية.
لا تخلو الشوارع أيضًا من أصوات لأناشيد وترانيم يعود أغلبها إلى “أفرام السرياني” الذي كان من أوائل من وضع قصائد مُلحنة للميلاد حتى لقب بـ”شاعر الميلاد”، ولا تزال الترانيم التي ألفها متداولة حتى اليوم في الكنائس الشرقية.
أضاف أبومينا، لـ”العرب”، أن صناعة بابا نويل ذاتها دليل على الواقع الفريد في منطقته فمعظم الورش التي تقوم بالتصنيع حاليًا يعمل فيها عمال مسلمون، وحتى من يقومون بدق الصلبان على الأيدي في الاحتفالات فإن الكثير منهم أيضًا يحملون اسم محمد.
طغت طبيعة التعايش بين السكان بشبرا على العادات والتقاليد وأوجدت مساحة واحدة بينهم، فالعقار الواحد ينقسم بين عائلات مسلمة ومسيحية، والمعالم الدينية بين الديانتين أيضًا لا تخلو من الامتزاج ذاته، فلا تبعد كنيسة سانت تريزا سوى مئة متر تقريبا عن مسجد “الخازندارة”، ومسجد عمر بن الخطاب يواجه كنيسة مار جرجس على الجهة الأخرى.
إسكندرية في القاهرة
في كتابه “شبرا.. إسكندرية صغيرة في القاهرة”، يفسر المؤرخ محمد عفيفي تلك العلاقة، فشبرا كانت العالم الجديد للمهاجرين على اختلاف أعراقهم ولغاتهم ودياناتهم وكلهم يتعايشون في تسامح، رغم حدوث التحول على أكثر من مرحلة، وبدأ مع فكرة خروج الأجانب الذي أدى إلى ظهور هذا التنوع، وأصبح لا يتواجد إلا الأقباط والمسلمون فقط لكنهم بقوا محافظين على تلك العلاقة.
كانت شبرا، التي أنشأها محمد علي باشا عام 1809 كمنتجع ريفي، حيًا راقيًا حتى الستينات قبل أن تنتشر العشوائية داخلها بخروج الأجانب في الستينات وبموجات نزوح من الريف، كان الحي الوحيد الذي ينزل
سكانه لشراء مستلزماتهم بملابس رسمية، وأنجب عشرات الفنانين والأدباء، أبرزهم سعاد حسني وداليدا وعلي الكسار وماري منيب وصلاح جاهين وإبراهيم ناجي.
تستقطب شبرا جمهورًا من الزبائن من غالبية المحافظات مع نهاية كل عام، بسبب تنوع المعروض الذي يوائم المداخيل المالية المختلفة، مثل سامح رزق الذي قطع رحلة تعادل 70 كيلو مترًا لشراء شجرة عيد ميلاد من نوعية رخيصة الثمن، ومجموعة من الهدايا لأقاربه.
لفت رزق، لـ”العرب”، إلى أن الاحتفال بعيد الميلاد ذاته يعكس التسامح الداخلي للمسيحيين بمصر، فالكثير منهم يحتفلون به مرتين في العام مرّة مع الكنسية الغربية في 25 ديسمبر، ثم مع الكنسية الأرثوذكسية التي يتبعونها في 7 يناير من العام الجديد.
لا ينظر الأقباط كثيرًا للجدل الذي أثاره الأنبا سرابيون، مطران لوس أنجلس أخيرًا بإعلانه عن إقامة قداسين لعيد الميلاد يتماشيان مع الكنيستين الغربية والشرقية، وهو ما عارضه أقباط وأساقفة مصر واعتبروه تفريطاً في الإيمان وانقساماً في الكنيسة الأرثوذكسية.
لا تخلو احتفالات الأسر المسيحية بعيد الميلاد المجيد في كنائس وكاتدرائيات شبرا الكثيرة من وجود بعض المسلمين كبار السن الذين تعودوا عليها كنوع من العادات الاجتماعية، حتى أن بعضهم يجعل ضمن رحلاته لزيارة الأولياء الصالحين للتبرك، زيارة كنيسة سانت تريزا أيضا.