شباب المسرح في تونس أمام تحدّي إثبات الذات

يعد الفن الرابع في تونس أحد أبرز المجالات الفنية الرائدة، والتي تحظى بالإشادة بسبب ما يزخر به المسرح من أعمال نجحت في نقل الواقع، حيث كان موثقا لأحلك الفترات السياسية والاجتماعية، ومع ذلك يتعرض المسرحيون الشبان إلى التهميش وضعف الدعم وقلة فرص التشغيل. ويجمع المتابعون على أن سيطرة وجوه فنية بعينها على القطاع الثقافي والتعاطي مع العروض الفنية بشكل تجاري من أبرز التحديات التي تواجه الشباب.
تونس ـ يجمع المتابعون لسير الحركة الثقافية في تونس حول مكانة ودور المسرح في المجال الفني،فهو مرآة تعكس واقع المجتمع، وقد نجح المسرحيون عبر أعمال عديدة في نقل هموم الشارع إلى الركح سواء عبر الكوميديا السوداء الساخرة أو أعمال فردية مثل “الوان مان شو”. لكن مع ذلك يواجه شباب الفن الرابع صعوبات وتحديات جمّة.
وتتسم الأعمال المسرحية التونسية بشهادة النقاد والمتابعين بالجرأة والعمق والطرافة، كما كانت مواكبة للتطورات السياسية التي مرت بها تونس في فترة ما قبل وبعد ثورة يناير 2011.
وفيما تجاوزت أعمال مسرحية الخطوط الحمراء في فترة نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي الذي عرف بتضييقه على الحريات، مثل مسرحية “يحيا يعيش” للفاضل الجعايبي” وهو من رواد المسرح في تونس، حتى وصفت المسرحية آنذاك بأنها كانت بمثابة “صرخة سياسية”، تطرقت أعمال أخرى بعين ناقدة إلى زمن ما بعد الثورة، مثل مسرحية “ثورة صاحب الحمار” للفاضل الجزيري وأعمال أخرى سلطت الضوء على مشاكل مجتمعية طفت إلى السطح، مثل توظيف الدين الذي رافق عودة أحزاب إلى الحكم ذات مرجعية إسلامية (حركة النهضة) أو بتسليط الضوء على سياسة المماطلة والتهميش التي يتعرض لها الشباب من قبل جميع الحكومات المتعاقبة مثل مسرحية “خوف” لفاضل الجعايبي.
ومع أن المسرح التونسي يعبر بدرجة أولى عن صوت الشارع، إلا أنه يعاني بدوره من صعوبات وتحديات لمواصلة دوره التثقيفي والتوعوي، على شاكلة ما تعانيه البلاد من أزمات على مستويات عدة.
ويشكل المسرحيون الشبان الحلقة الأضعف في المشهد الثقافي حيث يعانون قلة فرص التشغيل ما يضطرهم في الكثير من الأحيان للعمل برواتب زهيدة، كما يعدون ضحايا لسياسة المحسوبية في مجال بات يتطلب شبكة من العلاقات القوية حتى يحظى المشتغل فيه بفرصة.
وعلى غرار التهميش، وغياب الدعم، يشكو الكثير من المسرحيين الشبان من منافسة الفنون التي تحظى بجماهيرية أوسع مثل السينما والدراما التلفزيونية، إضافة إلى نجاح وسائل التواصل الاجتماعي في استقطاب الجمهور إليها.
كما يشتكي مسرحيون من قلة الفضاءات المخصصة للتدرب إضافة إلى حرمان آخرين من الدعم بسبب مواقفهم الجريئة.
وما زاد من متاعب المسرحيين الشباب خاصة، تراجع الإقبال على العروض الفنية، وهو سبب فسره كثيرون بكون المسرح لا يحظى إلا باهتمام جمهور النخبة، وأسباب أخرى ظرفية تتعلق بحالة الطوارئ الصحية التي فرضتها جائحة كورونا، والتي استوجبت إلغاء الأعمال الفنية، وبالتالي كانت تكلفة مكافحة الوباء باهظة بالنسبة إلى رواد المسرح في البلد.
صرخة ضد التهميش
لطالما ارتفعت أصوات المثقفين في تونس للدفاع عن ترسانة من الحقوق والحريات أو تعبيرا عن مواقفهم من مشهد سياسي ساخن مع استمرار حالة التجاذب بين الأحزاب التي ضربت بأهداف ثورة يناير عرض الحائط.
لكن في الآونة الأخيرة انضم المثقفون ومن ضمنهم المسرحيون الشبان إلى قافلة المحتجين ضد الأوضاع المعيشية التي تزداد سوءا مع تردي الأوضاع الاقتصادية، وبعد صمت طويل قرر أبناء المسرح في مختلف الجهات الاحتجاج والتحرك للمطالبة بالحق في العمل حاملين يافطة “انتهت الفسحة”.
ونقلت وسائل إعلام محلية في يونيو الماضي احتجاج خريجي المعهد العالي للفن المسرحي الذين طالبو وزارة الثقافة والمحافظة على التراث بضرورة تدريس المسرح وإدراجه كمادة أساسية ورسمية لجميع تلاميذ المدارس الإعدادية في إطار تكافؤ الفرص حسب ما يفرضه القانون.
ويفرض القانون التونسي تدريس المسرح لكنّ عددا كبيرا من المدارس الإعدادية لا تدرس المادة رغم وجودها في البرنامج الرسمي لعدم وجود أستاذ مختص، كما طالب الخريجون بفتح باب الانتداب الآلي والتدريب المستمر.
وحسب المتابعين كان تفاعل الوزارة باهتا مع هذه المطالب، بسبب ما تعانيه من ضغوط جراء الموازنة المالية الضعيفة، واكتفت بتقديم إجراءات لصالح المنددين بإيقاف التظاهرات الثقافية دون تقديم حلول فعلية لأزمة البطالة في قطاع المسرح.
وفي تونس 145 شركة إنتاج خاصة في مجال المسرح الذي يصنف على أنه من أكثر الفنون جرأة وتحررا في المشهد الثقافي، وعلى رغم ما يحظى به من مساحة للإبداع نصا وإخراجا وتمثيلا بشهادة نقاد محليين ودوليين، إلا أنّ مواهبه الشابة ظلت منسية وتفتقر إلى الدعم، فيما تكتسح الوجوه المعروفة المشهد المسرحي دون سواها.
وتقدم وزارة الثقافة دعما سنويا لقطاع المسرح يقدر بنحو 3.2 مليون دولار سنويا. وتؤكد مساعيها لتطوير القطاع ومواجهة العقبات التي تعرقل سير النشاط المسرحي الذي له أبعاد ثقافية واقتصادية واجتماعية، ومع ذلك مازال إشراك الشباب ضعيفا.
وترى أوساط ثقافية أن ما يعيق إشراك الشباب في الأعمال المسرحية أو ما يتعرضون له من صعوبات هو بسبب تباين الرؤى حول مسألة تأطير الممثل المسرحي في حد ذاته إن كان عصاميا أو أكاديميا، وهي نقطة لطالما أثارت الجدل.
ويوضح الممثل التونسي مهذب الرميلي، أحد أبرز الوجوه الفنية التي تألقت في الدراما التلفزيونية للموسم الرمضاني المنقضي، في حديثه لـ”العرب” أنّ “من أبرز التحديات التي تواجه الشباب المسرحي في تونس، هي إشكاليات التكوين، إذ أن الكثير من الفضاءات العمومية والخاصة تعتمد على مكونين غير مختصين وفي ذلك خطر كبير على مسار التكوين”.
ويشرح الرميلي بالقول “مصطلح التكوين يفترض بالضرورة مصطلح المنهج، وهذا الأخير هو مصطلح أكاديمي بامتياز، وبالتالي فإن المكون لا بد أن يكون مختصا أكاديميا، يعمل وفق استراتيجية واضحة ومنهجية مدعومة بمرجعيات معرفية محددة، تهدف إلى تحقيق غايات بعينها، وإلا كان التكوين رعوانيا يضر المتكون أكثر مما ينفعه”.
وتابع “أن تكون ممثلا بارعا أو مخرجا فهذا لا يعني بالضرورة أنك مكون جيد، فالتكوين اختصاص بيداغوجي أكاديمي صرف”.
وحذر الرميلي شباب المسرح من “دكاكين” التكوين التي أصبحت منتشرة في البلاد، داعيا وزارة الشؤون الثقافية “إلى سنّ منشور يمنع ممارسة التكوين المسرحي في الفضاءات العمومية لغير الأكاديميين”.
وحثّ الرميلي “شباب المسرح على مطالعة أمهات المراجع المسرحية ومشاهدة أكثر عدد ممكن من العروض المسرحية والمشاركة في التربصات والورشات التي يشرف عليها مكوّنون مسرحيون أكاديميون، على اعتبار أن الفن عامة والمسرح خاصة، موهبة تتطور بالمعرفة والممارسة”.
وفيما ترى أوساط ثقافية أن الأولية في التشغيل هي لخريجي المسرح، لا يعارض آخرون أن يمارس هذا الفن من تمتع بالموهبة وكان شغوفا به.
وتشير المسرحية التونسية ارتسام صوف لـ”العرب” أنّ “هناك معارك مفتعلة بين الأكاديميين والعصاميين ما من شأنه أن يشتت جهد الممثل”. وترى أن “الانزلاق وراء ذلك يلقي بظلاله سلبا على القطاع”. لافتة إلى أن “الهواية والاحتراف يكملان بعضهما البعض”.
وترى صوف أنه دون قوانين لا يمكن الحديث عن تكافؤ فرص التشغيل.
مشيرة إلى أن شهادة خريجي المسرح تعادل بطاقة الاحتراف. وتؤكد أن الحل يكمن في إيجاد قانون ينظم العمل الفني ويحمي المسرحيين الشبان مع رفد ذلك برصد موازنة محترمة تحسن الرواتب الضعيفة.
وانطلاقا من تجربتها، تعتقد صوف أن الإيمان بالموهبة حافز كاف لمواجهة التحديات. وبرأيها فإن اقتلاع فرصة العمل هو اجتهاد شخصي ونتيجة مثابرة طويلة ولا تشترط المستوى الجامعي فقط.
وارتسام صوف من الوجوه المسرحية الشابة التي تدافع عن المسرح النسائي في بلدها، حيث قامت بتأسيس أول مهرجان للمسرح النسائي في فبراير الماضي. وسلطت الضوء على صعوبات أخرى بالقطاع خاصة التي تواجهها الممثلة. وتلفت إلى أنه مازلت هناك نظرة الدونية لمهنة المسرح، على الرغم ما يضطلع به المسرح من دور راق ونبيل.
أزمة المسرحيين الشبان هي جزء من أزمة المشهد الثقافي في تونس الذي غلبت عليه ثقافة الإثارة في السنوات الأخيرة بسبب سعي أغلب الفنانين نحو النجومية وتحقيق الربح المادي، حسب استنتاجات المتابعين.
وبدل التركيز على المواهب الشابة ومنحهم فرصة الظهور في الساحة الفنية لإثبات قدراتهم، وقع التركيز على أسماء بعينها من قبل المخرجين والمنتجين. ويلاحظ المتابعون أن نجوم الأعمال الدرامية هم أنفسهم أبطال عدد هام من الأعمال المسرحية. كما وقعت بعض الأعمال في فخ الاستهلاك والسطحية ما قلص من جمهور المسرح في تونس.
ولا يريد المنتجون المقامرة بوجوه شابة قد لا تنجح في جذب الجمهور، ويعد التعاطي مع العروض الفنية بشكل تجاري أحد أبرز عوائق تطور المشهد الثقافي في البلد.
قطاع مأزوم
بالعودة إلى الوراء أدرجت الدولة إبان الاستقلال وفي عهد أول رئيس لتونس “الحبيب بورقيبة” المسرح ضمن أدوات أيديولوجية للتنمية، نظرا لوظيفته التربوية والثقافية، إلا أنه اليوم خارج دائرة الضوء بسبب غياب الدعم الحكومي، حيث سحبت السينما والتلفزيون وبشكل خاص وسائل التواصل الاجتماعي الأضواء منه. ولم يعد يلتف حوله غير جمهوره “النخبوي”.
وعلى الرغم من مساعي الشباب للحفاظ على بريقه وتوهجه رغم ما تعصف به من أزمة إنتاج ودعم ومحتوى، إلا أن تردي الواقع المعيشي يزيد من إحباط الشباب ويثنيهم على مواصلة المشوار.
ويقر توهامي روان وهو مدير المؤسسات والتظاهرات الثقافية بمدينة تطاوين (جنوب) لـ” العرب” بما يحظى به الشباب من طاقات إبداعية لكن الإشكال حسب تقديره يكمن في التأطير والفضاءات الثقافية بتونس التي لا تلعب دورا كافيا لدعم هذه الفئة. وبالنسبة إليه فإن الإشكالية الأهم هي سيطرة وجوه بعينها على المشهد المسرحي والثقافي والفني عموما والتي تتحكم في المشهد على حساب الطاقات الشابة، على حسب تعبيره.
مع ذلك، تبقى نقاط ضوء في المشهد الفني مبعثها تمسك بعض الشباب بحقهم على الرغم من كل الصعوبات إيمانا منهم بأهمية الإبداع ولرهانهم على دور المسرح في التغيير.
ويقدم فارس العفيف وهو مسرحي شاب نموذجا للنجاح في بلوغ حلمه عبر “مسرح الشارع”. ويلفت العفيف في حديثه لـ”العرب” بالقول “منذ أيام الدراسة أقوم بورشات تأطير في هذا المجال، وبعد التخرج تحصلت على فرصة للعمل وإثبات كفاءتي من خلال المشاركة في العديد من الأعمال مثل مسرحية ‘العاصفة’ أو ‘البجعات'”. ومكنه ذلك من أن يشغل اليوم منصب مساعد الإنتاج في مسرح الأوبرا التابع لوزارة الثقافة.
ويرى العفيف أن “على الشباب التمسك بطموحاتهم والتغلب على الصعوبات”. مستدركا “ليس من السهل أن يفرض الشاب وجوده في عالم الفن”. وخلص بالقول “أؤمن أن مع كل محاولة وإصرار ستكون النتيجة إيجابية”.