"سيلفي" بنكهة العلقم
لم تجد موظفة الخدمات الطبية خلفية أجمل من جسد مريض ممدد إلى جانبها في سيارة إسعاف، لتلتقط معه صورة “سيلفي” تضعها بزهو في صفحتها الشخصية في أحد مواقع التواصل الاجتماعي البريئة، ثم ترفقها بمجموعة من الكلمات السمجة التي عبّرت من خلالها عن انزعاجها من مزاولتها هذه المهنة “المقرفة” على حد تعبيرها.
تايتانيا كوليكوفا، المسعفة الروسية الشابة ذات الـ25 ربيعا، وصفت أحد المرضى الذي ذهب ضحية حادث مروري فظيع وكان يحاول -لسوء حظه- أن يلتقط أنفاسه الأخيرة في سيارة الإسعاف التي تقلهما معا، وصفته كـ”معتوه آخر” ظهر على خلفية “سيلفي” مزوّق بابتسامتها الواثقة.
وفي “سيلفي” آخر، بدت الحسناء الغبية وهي تنظر باشمئزاز جهة مريض أصيب بنوبة قلبية حادة وكانت تشير إليه بأصابعها إشارات غير مؤدبة، مذيلة صورتها بتعليق قصدت به حصد إعجاب مزيد من المتابعين، فكانت تقول “كم أكره عملي هذا!”
يبدو أن المسعفة الشابة لم تعط مواهبها حق قدرها ولم تكن تفقه مواطن القوة والضعف في شخصيتها، حين تسنى لها اختيار هذه المهنة الإنسانية المبالغ فيها والتي لم تكن على مقاسها. الشكاوى التي تقدم بها سكان محليين بعضهم من أقارب الضحايا كانت تعبّر عن القلق على راحة مرضى الطوارئ الذين لم يرتكبوا جرما بحق هذا “المسخ” البشري، حيث عكست جميع الصور إهمالا واضحا لواجب يقتضي الحكمة والسرعة في الأداء، إذ أن الممرضة كما هو جلي قد أهملت عملها بصورة فاضحة وتركت مساعدة مرضى في وضع حرج في ساعاتهم الأخيرة، لتنشغل بهاتفها الجوال وصورها البغيضة، بدليل أن أغلبهم كان فارق الحياة بعد مرور ساعات على التقاط هذه الصور.
فصلت تايتانيا من عملها فور وصول الشكاوى إلى الجهات المعنية معززة بالأدلة، كما أن المذنبة اعترفت بفعلتها الشنعاء دون أي حرج، فتسنى لها مغادرة مكان الجريمة بكل بساطة لأن القانون لا يحمي المرضى القابعين في عتمة الغيبوبة أما الغباء والاستهتار لم يصنّفا بعد باعتبارهما جريمة أو حتى جنحة، كما أن صور الهاتف الجوّال لم تعرّف كسلاح قاتل بعد في مسودات القانون الجنائي.
المتخصصون في علم النفس الاجتماعي كانوا برئوا ساحة “السيلفي” أو الصورة الذاتية في وقت لاحق، وعبّروا عن إعجابهم بالاختراع باعتباره وسيلة بريئة للتعبير عن ذواتنا وتحدثوا كثيرا عن دوره في تعزيز ثقتنا بأنفسنا وعولوا كثيرا على أهمية الميزة التي تتمتع بها هذه الصورة الواقعية التي لا تتطلب من الأشخاص أي تحضيرات مسبقة أو إضافات تجميلية أو ابتسامات في غير محلها، فهي توثيق للحظة عفوية نادرة في حياة فرد عادي وكفى.
لا أعرف إلى أي زوايا أخرى معتمة في النفس البشرية سـتأخذنا وسائل التقنية الحديثة هذه وأي الوحوش المفترسة ستقفز تاليا من شاشات هواتفنا ونوافذ أجهزتنا اللوحية، لتنقضّ على ما تبقى من قيم احترامنا لأنفسنا ولغيرنا.
لكن السؤال الذي يبدو أكثر أهمية في هذه اللحظة هو أين ستكون وجهة الفتاة الشابة بعد أن خسرت فرصتها في العمل كملاك رحمة؟ وماذا ستختار خلفية لصورها المقبلة، وما هي المهنة التي تليق بصاحبة الطباع الشرسة هذه؟ بل وما هو الاختراع التقني المقبل في مجال الهواتف الجوّالة؟