سيرة شعبية لحي مصري مزدحم بالحكايات

الكاتب المصري شريف عبدالمجيد يرصد عبر مجموعة القصص التي تضمها مجموعته عددا من التغيرات التي طرأت على ذلك الحي القديم.
السبت 2018/11/03
سخرية المهمشين ضحك ودموع (لوحة للفنان فريد فاضل)

المتتبع لأعمال الكاتب والقاص المصري شريف عبدالمجيد يدرك جيداً مدى ولعه بنوعية الحكايات التي تحمل طابعاً فانتازياً أو لا معقولا، وتبنيه لمفارقات الأحداث الغرائبية المبنية على وقائع حقيقية أحياناً. هو يدرك جيداً ككاتب ومتابع للأحداث أن الواقع قد يكون في أحيان كثيرة أغرب من الخيال، وهو يحاول قدر الإمكان تتبع هذا الجانب الغرائبي، على غرار ما فعله في مجموعته القصصية الأخيرة.

في مجموعته القصصية الجديدة بعنوان “صولو الخليفة” يطالعنا شريف عبدالمجيد بثلاثة وعشرين نصاً دفعة واحدة موزعة على مجموعتين، تحمل الأولى عنوان الكتاب “صولو الخليفة” وتضم خمسة عشر قصة قصيرة، بينما جاءت الأخرى تحت عنوان “قبل وبعد” واحتوت على ثمان قصص.

في هذه المجموعة، الصادرة عن دار بدائل للنشر، لا يبتعد عبدالمجيد كثيراً عن خطه الحكائي المدعم بالنماذج الواقعية، فهو يطالعنا في الجزء الأول بما يشبه السيرة الشعبية لحي الخليفة، وهو نفس الحي الذي شهد مرحلة طفولته وشبابه البكر. حكايات تقترب أحياناً من حس الفكاهة أو السخرية، السخرية هنا هي سخرية القدر الذي يجمع أحياناً بين وقائع وأحداث متناقضة أو ذات دلالة. ففي قصة “الحانوتي” على سبيل المثال، وهو الرجل الذي يتولى مراسم دفن الموتى. يجتمع أهل الحي على صوت صاحبة المخبز القريب التي اكتشفت موت الحانوتي على كرسيه داخل مكتبه، هذه الحادثة الأليمة التي أصابت الجميع بالصدمة سرعان ما تتحول تفاصيلها إلى مادة للضحك. “تعامل الجميع بحزن شديد مع الموقف وقرأوا الفاتحة على روحه، حتى أتى صوت صاحب المقهى: كده عايزين حانوتي يدفنه، فضجوا بالضحك حد البكاء”.

أبطال غريبون

بين القصص التي تضمها المجموعة يجمع الموت المفاجئ بين أطراف بعضها ليمثل نهاية صراع أو حياة مليئة بالتفاصيل، فالموت أحياناً ما يضع حداً للاشتباك، ويكون في أحيان أخرى بديلاً منطقياً وضرورياً إذا ما تعقدت الأمور على نحو لا يُحتمل، ففي قصته الأولى “في مسألة التوك توك” تذهب الأم فريسة لغيبوبة على إثر اشتباك بين ولديها. وفي قصة “عزف منفرد” يفقد الأستاذ كمال مغني الكورال بفرقة الموسيقى العربية أي مبرر للحياة، بعد أن تبخر طموحه الغنائي، حتى ذلك المحل الصغير الذي كان يؤنس وحدته والمخصص لبيع الآلات الموسيقية قد أغلق بعد أن بارت تجارته على إثر انتشار فرق المهرجانات في بدايات الألفية. يباغت الموت الأستاذ كمال على كرسيه في مكتب البريد وهو في انتظار دوره لاستلام معاشه، ليسدل الستار على حياة مليئة بالآمال والطموحات التي لم تتحقق.

 نهايات غرائبية لأبطال هامشيين
 نهايات غرائبية لأبطال هامشيين

وفي قصة “سماعي” تطالعنا حكاية الأسطى ربيع النجار المولع بتربية الحمام، والذي يستمتع بالجلوس لساعات بين أسراب طيوره مستمعاً لصوت أم كلثوم المنبعث من راديو صغير يحمله معه دائماً. النهاية المسرحية للأسطى بين أسراب الحمام لم تكن مفاجئة، فالجميع يعلم مدى تعلق الرجل بتربية الحمام حتى أنه لم ينس ذلك في وصيته التي أخبر بها شيخ الجامع القريب، فبعد أن دفنوه في قريته البعيدة كما أراد نفذوا الجزء الأهم من الوصية، أن يحرروا كل الطيور التي لديه، وهو ما جعل كل مربي الحمام في شارع الخليفة يطلقون سراح طيورهم من أقفاصها لتحلّق جميعاً في السماء كوداع أخير للأسطى ربيع النجار.

يرصد الكاتب عبر مجموعة القصص التي تضمها مجموعة “صولو الخليفة” عدداً من التغيّرات التي طرأت على ذلك الحي القديم الذي اكتسب اسمه لوجود أحد قصور الخلفاء الفاطميين فيه. في قصة “كريشندو سيد روسيا” تبرز الأحداث كيف تحول سعيد ظاظا أحد أحفاد الفتوات القدامى الذين كان لهم صولات وجولات في مثل هذه المناطق الشعبية إلى مجرد تابع للحاج صابر أحد التجار الكبار في المنطقة. يشي ظاظا بأهل الحي حين علم بنيّتهم مواجهة الحاج صابر للتخلص من فساده، ما جعل الحاج صابر يحتاط لذلك وتسفر المواجهات التي دارت مع رجاله عن مقتل سيد روسيا ذلك الشاب الأشقر الذي اشتغل لفترة بالبلطجة، لكنه قاد تمرد أهل الحي بكل شجاعة في مواجهة رجال الحاج صابر فتحول بعد موته إلى بطل شعبي.

سيطرة الخرافة

يختتم عبدالمجيد مجموعته بقصة “الحريق” وهي القصة الوحيدة من بين القصص التي تحتويها المجموعة والتي تنطوي على رمزية مباشرة وصريحة، فأهل القرية التي تندلع فيها الحرائق داخل البيوت لأسباب مجهولة، يعزون ذلك إلى أسباب خرافية، فهم يتهمون الجن تارة والأشباح تارة أخرى، كما يحيلون ذلك إلى غضب من الله لما ارتكبوه من ذنوب. وحين يستعين أهل القرية بالسلطة وتأتي لبحث الأمر، يخرج المسؤولون بأسباب غير مقنعة لهم، فقد توصلوا إلى أن الحرائق التي تندلع في القرية هي بسبب روث المواشي الذي يتم تخزينه داخل البيوت.

لم يقتنع سكان القرية بالطبع، فهم يتعاملون مع روث الحيوانات منذ سنين طويلة، وكان أبائهم وأجداهم كذلك أيضاً، ولم يسمعوا أبداً بمثل ذلك الأمر. “لم يصل أحد للحقيقة، لا أحد يعرف الحقيقة، كيف بدأت النار، ولا أسباب اشتعالها، ولماذا عربات الدفاع المدني عاطلة عن العمل، وخراطيم المياه لا يصل إليها الماء، والناس بعضهم ترك البلد، والبعض الآخر احتمى بالجامع كجدار أخير للحماية مما يحدث من وقائع لا يفهمها أحد، بيبكوا ويصلوا، ويصلوا ويبكوا، ولا يدور على ألسنتهم سوى سؤال واحد: يا خلق هو، إيه أصل الحريق ومصدر اللهب فين..؟!”.
ونذكر أن شريف عبدالمجيد قاص مصري صدرت له عدة مجموعات قصصية بدأها في عام 2002 بمجموعته “مقطع جديد لأسطورة قديمة” ثم تبعها بمجموعة أخرى تحت عنوان “خدمات ما بعد البيع” ثم “فرق توقيت” و”جريمة كاملة” و”تاكسي أبيض”، وإلى جانب كتاباته الأدبية له اهتمام آخر بصناعة أفلام الفيديو وفي توثيق رسوم الغرافيتي، التي سجلها في ثلاثة كتب مصورة.

حصل شريف عبدالمجيد على جائزة ساويرس الثقافية في الأدب لعم 2012 وجائزة أفضل فيلم وثائقي في عام 2015 من المهرجان القومي للسينما.

14