سيرة شاب مهمّش قبالة مجتمع خاطئ

تشكل رواية “اللعبة الغاضبة” أولى روايات الكاتب الأرجنتيني روبرتو آرلت، التي صدرتْ في طبعتها الأولى عن دار نشر “لاتينا”، بوابة الرواية الحديث في أميركا اللاتينية دون منازع، فلن يكون بوسع أكاديمي أو قارئ مطلع أو مؤرخ أدبي الوقوف على ناصية الرواية في دول أميركا اللاتينية دون العبور من صفحاتها إلى هذا العالم القصي والداني في نفس الوقت.
وفقا للناقد خوان كارلوس أونيتي أحدث صدور رواية “اللعبة الغاضبة” لروبرتو آرلت نقطة تحول فاصلة في الأرجنتين، ذلك أنه لأول مرة تتحول مدينة بوينوس آيرس إلى مركز الحكي على هذا النحو متخلية عن الصورة النمطية التي اعتادتْ الظهور بها في أعمال أخرى.
يدشن الكاتب، وفق أونيتي فضاء سرديا جديدا مستوحيا موتيفة أدب المهمشين لدوستوفيسكي، موثقا ملامح البشر الخاضعين للفقر والخسران والضياع المتواصل فيهيمون بلا توقف في شوارع المدن الكبيرة على غير هدى في محاولة مضنية للبقاء. لقد ولد ليكتب عن شقاء طفولته وصباه وشبابه، فعل ذلك بغضب وحنق في آن واحد، إنها أشياء فاضتْ
وكفت.
رواية الطليعة المضادة

التشويه يبرز كعنصر أساسي في شكل الرواية ومضمونها وينشطر إلى قسمين التشويه الملموس والتشويه النفسي الضمني
سيلفيو أستيير هو بطل الرواية التي ترجمتها أستاذة اللغة الإسبانية وآدابها عبير عبدالحافظ وصدرت أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية، وهو بطل ـ كما يقول خوان كارلوس ـ مدان بحياة الفقر والبؤس والعوز، غير أنه يحلم بمستقبل يخوض فيه مغامرات ويصبح شهيرا، وعلى الرغم من تقديم شخصيته في بداية الرواية كسارق إلا أنه مغاير لنموذج اللص التقليدي، فهو صعلوك لكنه نابغة يكتنفه الفضول للمعرفة، مهووس بالعلوم ويقرأ شعر بودلير.
من جهة أخرى فإن المستقبل المرسوم لسيلفيو محفوف بالاضطرابات واليأس “إنه مقفر وقبيح كأنه عقدة تقف في سبيل روحي. ومن هنا يتضح التحول في الشخصية، فاليقين من ديمومة العوز واليأس القائمين أبدا هو ما يسم المسيرة الوجودية لهذا الصبي”.
ويؤكد كارلوس أن نهاية أمر “اللعبة الغاضبة” تدلل على عجز الضحية، فبالرغم من كونه جلادا، إلا أنه لا يحتكم على أي مخرج أو وسيلة ينجو بها. ويشير إلى أن “أي قارئ مطلع على حياة روبرتو آرلت لن يكون بوسعه تجاهل عناصر التشابه بين الكاتب وبطل عمله، لقد ولد ليكتب عن شقاء طفولته وصباه وشبابه، فعل ذلك بغضب وحنق في آن واحد، إنها أشياء فاضت وكفت”. لقد مارس روبرتو مهنا متعددة، مندوبا صحافيا في إحدى المكتبات، رساما، ميكانيكيا، بائعا متجولا، عامل لحام، وعاملا في الميناء.
وفي مقدمتها للرواية قدمت عبدالحافظ دراسة استهدفت استجلاء مشهد الرواية الأرجنتينية في أميركا اللاتينية منذ قرابة مئة عام من خلال إلقاء الضوء على النتاج الأدبي لمؤلف الرواية آرلت (1900 ـ 1942) والذي ترى أنه “مهد الطريق بين آخرين نحو صياغة جديدة للشكل الروائي والقصصي مطلع القرن العشرين في الأرجنتين بشكل خاص وأميركا اللاتينية عامة”.
وتضيف “على الرغم من قصر عمره ورحيله في الثانية والأربعين إلا أنه أثرى المكتبة اللاتينية بالعشرات من النصوص التي تنوعت ما بين الرواية والقصة والمسرح وأدب الرحلات، وارتكز أساس تجربته الفنية على مدارس الطليعة المنبثقة عن الحركات التجديدية في أوروبا بدءا بالتعبيرية والمستقبلية الروسية والإيطالية والتكعيبية والسريالية وغيرها وما تلاها من تلاقح التيارات المذكورة بالباع التاريخي والفني للقارة الفتية التي لم يتم على اكتشافها حيئنذ سوى خمسة قرون. فإذا برموزها الفنية في الشعر والرواية والقصة والفنون التشكيلية والمسرح وغيرها يصيغون معادلتهم الإبداعية المستحدثة مبتعدين قلبا وقالبا عن حركة المودرنزم التي رسخ لها الشاعر النيكاراجوي روبن داريو (1867 ـ 1916)”.
وتتابع أن القطيعة بين التوجهين أضحت مثل حرب معلنة، وهو ما جعل الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 ـ 1986) يصف أتباع مدرسته بأنهم مثل الجراء “لا زالوا يهزون ذيولهم” في إشارة إلى جمود الحركة وعدم ملاءمتها للمناخ الأدبي المعاصر في تلك الحقبة والذي أفرزته أحداث الحرب العالمية والأزمات الاقتصادية وغيرها من العوامل التي غيرت المشهد العالمي ومعه سيكولوجية الإنسان من جهة وأولويات الكتابة والهدف منها من جهة أخرى.
"اللعبة الغاضبة" نص مفتوح لتأويلات عدة يتجزأ خطابه السردي لأربعة فصول تمثل حياة البطل في بوينوس آيرس
وحول الرواية ـ اللعبة الغاضبة ـ باعتبارها رواية الطليعة المضادة، تقول عبدالحافظ “قدم آرلت روايته ‘اللعبة الغاضبة‘ في مسماها الأول ‘الحياة القذرة‘، غير أن لجنة النشر استبعدت العنوان لوقعه الثقيل، فصدرت على النحو المذكور، اعتبرت تجسيدا لثورة الفن الجديد، واشتملت على سمات الخطاب المجدد والمقاوم للمدرسة التقليدية في شكل ومضمون الرواية وصورة البطل وتقنيات الحكي وغيرها من مقومات البنية الروائية المتعارف عليها، على الرغم من الإبقاء على مركزية صورة البطل الذي بدا امتدادا لروايات الصعاليك لكن في صورتها الجديدة التي حل فيها البطل المهمش محل المراهق محل البطل التاريخي المتعارف عليه”.
ويستهل آرلت النص بإبراز وجود البطل قبالة المجتمع “الخاطئ” غير المكافئ لتكوينه العقلي والنفسي، مستحضرا فلسفة نيتشه وتأثير الأدب الروسي وتحديدا شخصية راسكولينكوف في رواية “الجريمة والعقاب”، ودولجوروكي في رواية “المراهق” لدوستوفيسكي، وينسدل تيار الحكي في ضمير الأنا، حيث البطل مركز الحكي ومراقب حراك الأحداث التي تتواتر في صوت أوتوبيوجرافي للصبي “سيلفيو أستيير” الألماني الإيطالي الذي هاجرت عائلته إلى بوينوس آيرس مثله مثل آرلت.
وتتابع “يبرز التشويه كعنصر أساسي في شكل الرواية ومضمونها وينشطر إلى قسمين: التشويه الملموس والتشويه النفسي الضمني، ويضم الأول الشخوص المشوهة من خلال الوصف الدقيق لملامحهم وأجسادهم ما بين الأعرج والأحدب وغيرهم، والأماكن الضيقة القذرة الفقيرة ما بين المنازل والمتاجر والطرق، والجانب الآخر في سيكولوجية البطل، الإطار الاجتماعي، القدر، اللغة، العائلة وما ينتج عن كل ذلك من مشاعر سلبية موازية للإحساس بالدونية والمهانة المتصلة والجريمة والانتحار والولع بالآلة والعلوم والاختراع وأجواء العلوم الباطنية”.

تسرد الراوية والبطل محط الحكي “سيلفيو أستيير” في المشهد المكاني/ النفسي، سيرته الموجزة في البداية وهو في الخامسة عشرة من عمره، منشأه البائس، فقر عائلته المهاجرة، غياب الأب الذي يكشف لاحقا أنه “قتل نفسه” عوزه وعوز أسرته المؤلفة منه وأمه الهزيلة التعيسة وأخته “ليلا” التلميذة النابهة التي لا تملك ثمن الكتب فتقرأ في المكتبة. أصدقاؤه المماثلون له في الفقر والتعاسة والعوز والذين يقررون تأسيس “نادي فرسان منتصف الليل” للسرقات والاختراعات العلمية وقراءة الشعر والرياضيات والميكانيكا.
وفي أعقاب الفشل والتشرذم بعد سلسلة من السرقات المتعاقبة للمتاجر والمنازل ومكتبة إحدى المدارس يتفرقون ويسلك كل منهم مسلكا وضيعا آخر. تدفعه أمه للعمل في أعمال دنيا رغما عنها ليعيل الأسرة، فيعمل صبيا في متجر لبيع الكتب يتجرع المهانة والخزي والجوع، ويتعرف على نقائص النفس البشرية لعالم الكبار عن قرب، ثم يحاول الالتحاق بمدرسة الطيران العسكرية ويتم قبوله لمعرفته الفائقة وتعلمه الذاتي النابع من هدفه أن يكون مخترعا، يبلي بلاء حسنا غير أنه يتعرض للطرد ليضعوا آخر مكانه بحكم المحسوبية. يستقر به المقام بائعا جوالا في وكالة لبيع أفرخ الأوراق للمتاجر والصيدليات والأسواق وغيرها، فيجانبه الفشل في البداية إلى أن يتمكن من تحقيق نجاحات متواضعة تسد رمقه هو وأسرته.
يلتقي “سيلفيو أستيير” بـ”الرينجو” وهو صبي أعرج من صعاليك السوق ذو شعبية كبيرة بين البائعين، ويعمل حارسا لعربات السوق وخيولها، يتفق مع خادمة في بيت مهندس معماري لسرقة مفاتيح المكتب والبيت فينسخها ويستعد مع “سيلفيو” للسرقة، غير أن “سيلفيو” يقرر الوشاية به للشرطة في آخر لحظة، ويتم سجنه هو والفتاة، بيد أن المهندس الذي أنقذه الصبي من عملية السرقة يعرض عليه مكافأة في ما يعامله باحتقار ويسأله مستنكرا عن سبب وشايته بصديقه، يرفض”سيلفيو” المكافأة باستعلاء ويقدم تبريرا نفسيا بارعا عن رؤيته للحياة في تفصيل مسهب فيثير عجب وإعجاب المهندس ويعرض عليه المساعدة مجددا فيطلب منه الأخير أن يساعده للسفر إلى الجنوب.

وترى عبدالحافظ أن “اللعبة الغاضبة” ليست إلا نصا مفتوحا لتأويلات عدة، يتجزأ الخطاب السردي في أربعة فصول تمثل حياة البطل في خضم بوينوس آيرس مدينة تتألف من خليط من المهاجرين مطلع القرن العشرين وتعنون على هذا النحو: اللصوص، العمل والأيام، اللعبة الغاضبة، يهوذا الأسخريوطي. لقد عمد آرلت إلى استخدام بنية الرواية البيكارسية مستدعيا قالب رواية لاثاريو دي تورمس المحاكية لرواية الصعاليك متخذا من ذلك القالب الإطار المحيط بمحتوى مادته الحكائية ومستندا من جانب آخر على عناصر الطليعة السادة الرامية إلى خلق نصوص مغايرة للنمط السائد.
وتلفت إلى أن “الأدب والعلوم هما المحركان الرئيسان على مدار الرواية ويتركزان في الفصل الأول الذي يضم التعريف بالبطل ومحيطه ووضعية المجتمع الأرجنتيني و’الونفارد’ في بوينوس آيرس في إشارة إلى الشريحة الاجتماعية الأكثر فقرا واحتيالا ويأسا، تلك التي ينتمي إليها آرلت وعائلته. بالمثل يعرض الطفل للسيكولوجية المعقدة لمعادلة الصبي ـ البطل: وضعه الاجتماعي، أحلامه الموءودة ما بين تفوقه العقلي وظروفه الاجتماعية غير أن كل ذلك لم يحل دون نبوغه في الأدب والعلوم حتى أنه يخترع مدفعا كان حديثا للجميع”.