سيد ضيف الله: المجتمعات العربية هي التي غيرت الرواية لا العكس

يطرح زخم الرواية العربية العديد من التساؤلات الإشكالية والقضايا المرتبطة بعلاقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، ومدى العمق الفني والجمالي والمضموني الذي استطاعت إنجازه وإضافته، فعلى الرغم من زخمها الهائل تواجه بأنها لم تستوعب الكثير من الهموم والقضايا والنزاعات والأحداث التي تمر بها الكثير من المجتمعات العربية، انطلاقا من ذلك كان لـ”العرب” هذا الحوار مع الناقد سيد إسماعيل ضيف الله أستاذ النقد الأدبي في معهد النقد الفني بأكاديمية الفنون المصرية.
يعتبر الناقد سيد إسماعيل أحد أبرز المتابعين للمشهد الثقافي عامة والروائي والشعري خاصة، حيث تطال اهتماماته العديد من المحاور الإشكالية في الثقافية المصرية والعربية من خلال عدد من المؤلفات، مثل “السرد والخصوصية الثقافية” و”صورة الشعب بين الشاعر والرئيس” و”كيف نحكي المواطنة؟ نحو مراجعة نقدية للثقافة المصرية” و”آليات السرد بين الشفاهية والكتابية، دراسة في رواية مراعي القتل والسيرة الهلالية” و”الآخر في الثقافة الشعبية”.
ويرى سيد إسماعيل ضيف الله أنه من الصعب الحديث عن تصور واحد للرواية يمثل ما يُطلق عليه “الرواية العربية”. ويقول “هناك تصورات عديدة ومتباينة حول مفهوم الرواية أصلا. ويبدو لي أن هذا الأمر طبيعي، فالرواية نوع أدبي ذو طبيعة شديدة المرونة وقابل لامتصاص كل الحدود التي يمكن أن تمنحه هوية ثابتة. لكن إضافة إلى ذلك، لم تكن الرواية يوما ما ممارسة أدبية مقطوعة الصلة بالمجتمع”.
ويضيف “إذا تأملنا صفة العربية التي نصف بها الرواية فسوف نلاحظ أنها محل جدل كبير؛ فمن المفترض أنها تشير إلى اللغة التي كتبت بها هذه الروايات، لكن في الوقت نفسه نجد العديد من الروايات المكتوبة باللغة العربية من قبل روائيين غير عرب عرقيا أو غير مسلمين دينيا أو غير سنيين مذهبيا، غير أنهم يقدمون عبر ‘الرواية العربية’ تمثيلات لهويات متصارعة، على مستوى السرد، مع الهوية العربية ذات التجلي المسلم السني”.

- الرواية الآن هي النافذة البديلة التي تصور لنا حالة مجتمعاتنا في بقعة جغرافية متسارعة الأحداث وصراعاتها محتدمة
- لم تعد للناقد تلك الوصاية على الرواية أو غيرها من أشكال التعبير الأدبي، لكن في الوقت نفسه مازال الروائي يتوق إلى كل حضور ممكن لنصه
ويتابع “بالمناسبة، الكثير من هذه الروايات تتسم بمستوى فني عال ولا يمكن الانحياز ضدها نقديا إذا كنا نحتكم إلى محض معايير جمالية تستند إلى نزعة إنسانية عابرة للقوميات، لكنْ هناك خيط رفيع بين هذه المثالية الإنسانية وما يترتب عليها من ممارسات نقدية، وبين الوعي النقدي بما أسميه النظام العالمي للرواية والذي يجعل من غاية السرد ومن إدارة صراع الأنساق الثقافية داخل الروايات ومدى تحقق عدالة التمثيل جزءا لا يتجزأ من الجماليات”.
ساحة صراع
حول العلاقة بين الرواية والسياسة في ظل تصاعد التوترات في المجتمعات العربية، يوضح ضيف الله “أتذكر في هذا السياق مقولة لتيري إيجلتون الناقد الإنجليزي المعروف، يقول فيها إن ‘النظرية الأدبية جزء لا يتجزأ من تاريخ أوروبا السياسي’، وهذا يعني أن التنظير النقدي للأدب، وبالتالي الممارسة النقدية في أي منطقة في العالم جزء من تاريخها السياسي، بهذا المعنى يمكن أن نوسع مفهوم السياسة ليكون تاريخ الأدب والنقد الأدبي جزءا جوهريا فيها. ومن هنا فإن تصورنا للرواية ودورها بمثابة ممارسة نقدية وثيقة الصلة بتاريخنا السياسي العربي. وليس أدل على ذلك من رصد عشرات الروايات التي تعرضت للصراع العربي – الإسرائيلي وتحولات الرؤى فيها من فترة تاريخية إلى أخرى، وأثر تلك الرؤى على أحكام القيمة الجمالية حول هذه الروايات”.
ويرى أنه إضافة إلى ذلك كان هناك تصور أن الرواية العربية ارتبطت فلسفيا بمشروع النهضة العربية وأن رواد التنوير عولوا عليها إلى حد كبير في إحداث نقلة حضارية للمجتمعات العربية واللحاق بركب الحضارة في الغرب، لكن الناظر في المشهد الروائي يلحظ بسهولة أن الرواية أصبحت ساحة صراع دخلها الأصوليون والطائفيون والعرقيون والمتصوفة واستحوذوا على الكثير من نصيب التنويريين فيها. وهذا في حد ذاته يشير إلى أن الرواية في الوقت الحاضر أصبحت بشكل أوضح مما كان في الماضي وسيلة متاحة في يد المتنافرين أيديولوجيا وجماليا لبناء الأمة من مناظير مختلفة بحسب موقع الروائي الثقافي. ومن هنا يكون استقبال الروايات وتشجيعها بالجوائز أو بالكتابة المادحة عنها صورة من صور التضامن الثقافي والجمالي مع موقع هذا الروائي الثقافي أو ذاك. وهي مسؤولية إنسانية قبل أن تكون مسؤولية مهنية أو قومية.
ويأسف ضيف الله لكون الرواية الآن هي تلك النافذة البديلة التي تصور لنا حالة مجتمعاتنا في بقعة جغرافية متسارعة الأحداث وفي خضم صراعاتها المحتدمة، ويؤكد “يمكن أن نلحظ أن مفهوم ‘ديوان العرب’، الذي كان يُطلق على الشعر القديم فعليا ويُطلق على الرواية الآن على سبيل التقريب بين أهمية الشعر قديما وأهمية الرواية حديثا، هو مفهوم ينطوي على مغالطة: لأن فارقا كبيرا بين دور الشعر في الجاهلية ودور الرواية الآن يكمن في أن العرب لم تسجل في الشعر هزائمها وإخفاقاتها وخيبات أملها، بينما الرواية الحديثة لم تسجل للعرب سوى تلك الهزائم والإخفاقات وخيبات الأمل”.
ويتابع “لهذا وللمفارقة، فإن أكثر الشعوب العربية إسهاما في إثراء الرواية العربية هي أكثرها معاناة في الواقع، وهذا يختلف باختلاف الفترات الزمنية لتواريخ مآسي هذه الشعوب. ولا شك أن هذا يؤثرعلى التقييم النقدي أحيانا كثيرة، لكن من قال إن النقد الأدبي بمعزل عن التاريخ السياسي المحلي، ومن قال إن الرواية بمعزل عن النظام العالمي للرواية الذي هو عبارة عن صراع بين أيديولوجيات جمالية شديد الارتباط بطبيعة العلاقات الدولية. فالانحياز إلى روايات واقعية تتخذ من معاناة الفقراء موضوعا لها كان يلقى اهتماما وتثمينا نقديا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي كأثر من آثار تشكيل النظام العالمي لجماليات الرواية، والانحياز الآن إلى روايات تتخذ من الحريات الشخصية أو قضايا الأقليات أو الفانتازيا التي ترسخ صورة الآخر/الهامش المختلف عن الذات المركزية في أوروبا وأميركا يلقى اهتماما وتثمينا نقديا عالميا منذ أربعة عقود على الأقل”.
أما عن رؤيته لزحف الشعراء والنقاد بشكل واضح على مجال الرواية، يوضح ضيف الله أن “الرواية نوع أدبي جاذب بطبيعته، فقد صدق الأستاذ نجيب محفوظ حين وصفها بأنها شعر الدنيا الحديثة، وأعتبر أن محاولة روائية تأتي من شاعر أو ناقد لديه ما يضيفه جماليا إلى الرواية هي إثراء للرواية. وأنا هنا أتكلم عن دوافع جمالية وثقافية لدخول الشعراء والنقاد ساحة الرواية. أما النظر إلى من يدخل مجال الرواية باعتباره متطفلا يطمع في الجوائز فهو أمر غريب. فالرواية وجوائزها ليستا حكرا على الروائيين، فليس هناك من ولدته أمه روائيا! العبرة بما يتم تقديمه من روايات سواء جاءت من شاعر أو ناقد أو روائي. ومع ذلك، يمكن أن نتعلم من ذلك أن الجوائز لها دورها في تشجيع الإبداع وبالتالي من المهم إعادة الاعتبار لجوائز الشعر وجوائز النقد الأدبي حتى يمكنها أن تكون جاذبة لإسهامات الشعراء والنقاد الراغبين في ذلك”.
الرواية والثورة
يعتبر ضيف الله أن “الذين ظهرت أعمالهم الروائية في بداية الألفية الثالثة تتراوح أعمارهم فعليا بين الأربعين والخمسين عاما، وهؤلاء لا تنطبق عليهم من وجهة نظري فكرة الجيل الأدبي التي كانت تنطبق على جيل الستينات (جمال غيطاني، إبراهيم أصلان، بهاء طاهر، صنع الله إبراهيم، محمد البساطي …إلخ) أو جيل التسعينات (أحمد زغلول الشيطي، منتصر القفاش، مصطفى ذكري، مي التلمساني، أحمد العايدي، ميرال الطحاوي..إلخ). ولا شك أن جيل بدايات الألفية الثالثة له إسهامات متنوعة في الرواية، بعضه يمثل إضافة حقيقية إلى الرواية المصرية كما هو الحال مع أحمد عبداللطيف ومحمد الفخراني وهاني عبدالمريد ومحمد عبدالنبي وطارق إمام ومنصورة عزالدين”.
ويضيف أن “المجتمعات العربية هي التي غيرت الرواية وليس العكس. فليس المطلوب من الرواية تغيير المجتمعات بشكل ثوري وإنما المتوقع منها تمثيل هذه المجتمعات على نحو عادل يسمح للقراء بإعادة تأمل واقع مجتمعاتهم واتخاذ موقف نقدي مما يدور حولهم على أسس شبه عقلانية وشبه إنسانية. وفي كل الأحوال، تقديم نص جميل هو بحد ذاته مقاومة للقبح المحيط بعالمنا المادي الحديث. ومن ناحية ثانية، الرواية تغيرت أشكالها بتغير المراحل الثقافية التي مرت بها المجتمعات بوصفها جزءا من نظام العالم الذي شهد تحولات حادة خلال نصف قرن فقط”.
ويقول ضيف الله “قد تكون الأمة العربية في خطر، لكن الرواية العربية ليست في خطر. ولا شيء يمكن أن يهدد الرواية العربية سواء انحسار المؤسسة النقدية أو طغيان السلطة أو الرواية نفسها بظهور رواية مضادة لقيمها، فالرواية لديها أساليب تمكنها من المراوغة وتجديد جلدها وفق كل سياق مجتمعي وتاريخي. ولا شيء يمكن أن يضع الرواية في خطر سوى عدم وصول القارئ إليها. وهذا شبه مستحيل في ظل ما نشهده من ثورات متتالية في طرق التواصل بين البشر. والقارئ وحده هو الذي ينفث في الرواية روحها اللعوب. والقارئ هنا أوسع من المؤسسة النقدية سواء بشكلها الحرفي أو المجازي”.
ويتابع “لم يعد من الممكن التعامل مع الوضع الراهن بعقلية ما قبل ثورة الاتصالات، ولم تعد للناقد تلك الوصاية على الرواية أو غيرها من أشكال التعبير الأدبي، لكن في الوقت نفسه مازال الروائي يتوق إلى كل حضور ممكن لنصه سواء في العالم الافتراضي أو على منصات التتويج بالجوائز، وهذا في حد ذاته عمل مؤسسي بامتياز لكنه لا ينبغي أن يتعارض مع ذائقة أغلبية القراء لاسيما المدربين منهم أصحاب الذواكر القرائية الثرية”.
الانحياز إلى روايات واقعية تراجع لصالح روايات تتخذ مواضيعها من الحريات الشخصية أو قضايا الأقليات أو الفانتازيا
ويلفت ضيف الله إلى أن النقد الأكاديمي في وضع يُرثى له. فهناك هجوم عليه باستمرار واتهام بالتقصير في المتابعة، لكن الموضوع أكبر من ذلك. فمؤسساتنا النقدية في الجامعات تكاد تكون قد توقفت عن تخريج نقاد للأدب، وإن كانت تستمر في تخريج مدرسين للأدب أو للغة يؤدون عملهم بإخلاص في حدود المتاح من إمكانيات مادية ومعلوماتية. وبالتالي أظن أن الناقد المتميز سواء كان أكاديميا أو خارج الجامعات العربية هو نتاج جهد فردي في التعلم والدأب في المتابعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن السلطة الرمزية التي كانت للناقد قد زالت وأصبح المطلوب منه في الكثير من السياقات المشاركة الشكلانية في كرنفالات حفلات التوقيع، الأمر الذي يجعل الكثير من النقاد الجادين سواء داخل الجامعات أو خارجها يعزفون عن القيام بهذا الدور.
ويرى أنه لا يزال أمامنا وقت طويل حتى نتكلم عن أثر فعال للإنترنت ووسائل التواصل في جماليات الرواية العربية. فالمسألة أعمق من مجرد ذكر فيسبوك أو تويتر في نص روائي أو نقل حوار عبر غرف الدردشة في نص آخر.
ويقر بأن “استخدام الإنترنت حتى الآن يتم بغرض الترويج لمنتج ثقافي مثله مثل الترويج للعقارات والسيارات مثلا، حيث يتم تكوين نوادي القراءة وصفحات المعجبين بكاتب ما وتكليف أحد الصحافيين بإدارتها. وهذا كله لا يعني أن شبكة الإنترنت أدت إلى ظهور وعي جمالي بالرواية لدى جيل الألفية الثالثة يخالف ما كان لدى الأجيال التي سبقت الحضور الطاغي للإنترنت في حياتنا. بل يمكن القول إن ما يتم من إنتاج لنصوص تشعبية على الإنترنت محكوم في الكثير من الأحيان بوعي جمالي للرواية ينتمي إلى التصور الحداثي للرواية أكثر من انتمائه إلى الوعي الجمالي المرتبط فلسفيا بما بعد الحداثة وذلك التجاور بين المتناقضات فيها التي يجسدها فضاء الإنترنت”.