"سيدي وقاهري" لفرنسوا هنري ديزيرابل.. قصة حب حارقة بين شاعر وممثلة لم يبق منها إلا دفتر قصائد

الرواية الفائزة بجائزة الأكاديمية الفرنسية توقع بقرائها في شرك اللذة.
الجمعة 2023/04/28
قصة حب سامية ومأساوية (لوحة للفنان صفوان داحول)

يحفل الأدب العالمي بقصص الحب الجامحة التي تلهب خيال القراء وتؤجج مشاعرهم وتطلق العنان لانفعالاتهم الشعورية إلى أبعد مناطق النشوة أو التطهير أو الانصهار في العمل الأدبي. ولا تزال هذه القصص منذ بدايات الأدب تغري قراءها وتوقع بهم في ملذاتها، وهذا ما يحدث أيضا مع رواية “سيدي وقاهري” للروائي الفرنسي فرانسوا هنري ديزيرابل.

فوق الطاولة المسدس الّذي استخدمه بول فيرلين في إطلاق الرّصاص على رامبو، وقد تم شراؤه من مزاد علني على حساب المكتبة الوطنية الفرنسية، وبقايا مسحوق مقذوفة، ودفتر ملاحظات يحتوي على ما يزيد عن عشرين قصيدة تتماثل في شكلها مع قصائد الهايكو، هذا ما تبقى من قصة حب فاسكو وتينا التي يرويها أفضل أصدقائهما، هذا الراوي الذي يستدعيه القاضي كشاهد ومتهم أيضا للاستماع إليه في قضية صديقيه اللذين التقيا ذات سهرة في منزله، ليبدأ في تفسير القصائد، التي كتبها فاسكو في دفتره، في حب تينا والتي من شأنها أن تكشف مسارات تطور هذا الحب.

كل عبقرية الرواية “سيدي وقاهري” للروائي الفرنسي فرانسوا هنري ديزيرابل، التي ترجمها الشاعر والقاص صلاح بن عياد وصدرت عن دار صفحة سبعة، تكمن في اللغة التي تريد أن تكون صريحة مثل القبلة الفرنسية، والتي ترضي بالتأكيد عشاق الشعر الفرنسي في حب الرومانسية بعض الشيء المثير للشفقة، حيث يقدم الروائي سرداً ممتعاً عن قصة حب، عاصفة مدمرة، مستحيلة، لا يبقى منها سوى هذه المفكرة، مليئة بالقصائد التي كتبها فاسكو.

مشاعر جامحة

الرواية تقدم سردا ممتعا عن قصة حب عاصفة ومستحيلة، لا يبقى منها سوى مفكرة مليئة بالقصائد العاشقة
الرواية تقدم سردا ممتعا عن قصة حب عاصفة ومستحيلة، لا يبقى منها سوى مفكرة مليئة بالقصائد العاشقة

تبدأ الرواية، التي نال بها ديزيرابل الجائزة الكبرى للأكاديمية الفرنسية في الرواية، انطلاقا من مستودع أسلحة، حيث يبحث فاسكو عن وسيلة للرد على تهديدات إدغار، زوج عشيقته تينا، فاسكو غارق في حب تينا الممثلة المسرحية غريبة الأطوار، التي تنقسم حياتها بين إدغار والد توأمها الحبيب، الذي كانت تنوي الزواج منه، وعشيقها فاسكو المهووس بها.

تتبع تينا خيط هذا الشغف المستهلك بالكامل من الحب من النظرة الأولى التي تجسدت في لقائهما ومن المغازلة الفورية إلى التسويف، ثم من الاستهلاك الجنسي والعاطفي إلى الاعتراف بالكلمات السحرية الثلاث التي تفتح قلبك، تنتقل الرواية عبر آلام الحب بحنان، ثم تأتي مرحلة المحاولات العبثية للانفصال. وهنا تتجلى دراما الغيرة ومعاناة الانفصال، وعلامات النهاية المأساوية.

الراوي يقوم بفك رموز القصائد المدونة في دفتر ملاحظات صديقه فاسكو لمساعدة القاضي على رؤية أكثر وضوحا في هذه “القصة” التي من خلالها يغرق القارئ في الذكريات ويصبح هو نفسه القاضي أو على الأقل محلفًا لمحاكمة دراما الحب هذه، يروي بالتفصيل تعليقات، يعهد بعناصر للقراء لا يكشفها للقاضي الجالس قبالته. باختصار الراوي هو راوي قصص ممتاز يجعلنا نعيش قصة حب سامية ومأساوية لا تهدأ ولا تفكّ غموضها.

شخصيات الرواية مليئة بالحياة، تمكن الكاتب من تجسيدها بحيوية وجعلها واضحة تمامًا، دون غموض أو زخرفة. فنرى في المشاهد الجنسية أجساد وأوهام العشاق الذين يجدون أنفسهم في سرير غرفة فندق؛ ونرى مشاهد اليأس التي يختلط فيها عدم الفهم بالدموع وغياب الآخر. باختصار، هذه رواية عن المشاعر الخام والرغبة الجامحة.

الشخصيتان الرئيسيتان/ العاشقان تينا وفاسكو، جزء من العائلة الحساسة، الأولى ممثلة مسرحية وتحب الاستمتاع بقصائد بول فيرلين ورامبو مع فنجان قهوتها، والآخر شاعر وعاشق للغة ومدرك لقوتها، واقع في حب الكتب بعد لقائه أحد محبي الكتب، مما دفعه إلى الالتحاق بمدرسة المواثيق والتوظيف في مكتبة فرنسا الوطنية. هذا هو المكان الذي رأى فيه تينا للمرة الأولى.

وبهذا المعنى، فإن تاريخهما ليس سوى سلسلة من الدوافع والجاذبية الجنونية والنفور المقيد بالحب. يختبر كل منهما الحرية الكاملة لحبه، لأنه محرم تمامًا. لقد رأينا هناك التوضيح الكامل للحب اللطيف المتمثل في حب العصور الوسطى، النقي والصادق، والذي لا يقع إلا في سرية، لانسلوت وجوينفير وفاسكو وتينا ورامبو وبول فيرلين.

وتعيش تينا مع إدغار وتوأمهما، كانت علاقتهما الجنسية تمارس بشكل مكثف، لكن مع ولادة التوأمين تفتر وتتحول إلى حب سلمي. كان إدغار راضيا عن ذلك، واستمر في الحفاظ على جسده، ولعب البيسبول بدون قميص، لكن كان يطحن أسنانه ويغط في نوم عميق ليلا، كانت تينا تعاني من رغباتها، وهنا تتجاهل الاتفاقيات والوعد الذي قطعه إدغار للزواج منها، وتنسى الاستعدادات التي تجري لحفل زفافهما والذي وعدها إدغار بأن يكون فخمًا، لكن بعد لقائها بفاسكو تنقلب حياتها، ليعبر ثلاثتهم “تينا وفاسكو وإدغار” مسارات درامية خطرة.

مسارات درامية خطرة

الكلمات والذكريات في الرواية تبقى مثل اليوميات الشعرية تسترجع قصائد العاشق التي يقرأها القاضي على الراوي

عناق تينا وفاسكو جميل، كل شيء بينهما ساخن، من الفم إلى الفم، ومن اليد إلى اليد، ومن الكلمة إلى النص الشعري، ينغمسان في ملذات الجسد والعقل، وبالنهاية يكشف الراوي القليل جدًا من مشاعرهما العميقة، لكن لا حاجة إلى قول الكثير، القارئ يمكنه أن يعرف ذلك ويشعر به.

كما قال فيرلين: جئت لأخبرك/ عندما تشتعل النيران، ما الذي يبقى سوى القليل من الجمر المشتعل والمتوهج؟

تبقى الكلمات والذكريات. مثل اليوميات الشعرية لعلاقتهما، تسترجع قصائد فاسكو قفزات القلب، يقرأها القاضي على الراوي وهما يغمراننا في الذاكرة. الكلمة الشعرية تبرز القصة. نعود تقريبًا إلى البعد المقدس حيث تنسج القصائد القصة، وبالتالي تظهر كصيغ سحرية كتبها فاسكو حتى لا تموت قصة حبه وتعيش دائمًا.

لقد جن جنون فاسكو بعد قرار تينا عدم الاستمرار في العلاقة، وازداد جنونا بفعل رفضها الاختيار بينه وبين إدغار ثم قرارها النهائي بالانفصال عنه. لم يدرك غرابة أطوارها وشخصيتها التافهة والباهظة الجمال حيث تشبه بل تجسد الأميرة الأندلسية ذات العيون الخضراء والشعر الأحمر الطويل. وهنا تبدأ المواجهة التي تفضي إلى مأساة.

وأخيرا إن الرواية تدهش بجمالها ومراجعها الأدبية، لم يتم الإخبار عن الشعور بالحب وما يترتب عليه، بل تم توضيحه لنا بسرد فني جميل وأيضا توضيحه من قبل أعظم شعراء ومؤلفي الأدب الفرنسي: فيرلين ورامبو وهوجو وفولتير أو حتى أبولينير.

13