سياسات واشنطن والدول الأوروبية تصطدم بمعضلة الإرهاب الإيراني

رغم أن الدور المشبوه الذي يقوم به النظام الإيراني في دعم التنظيمات والجماعات الإرهابية لم يعد خافيا على أحد، إلّا أن حكم الإدانة في قضية الدبلوماسي الإيراني أسدالله أسدي ومعاونيه المتهمين بمحاولة تفجير تجمّع للمعارضين الإيرانيين في باريس لن يكون في صالح طهران التي تعتبر أوروبا طاقة أمل فتحت أمامها للتخفيف من وطأة العقوبات الأميركية على اقتصادها، وكذلك رغبتها في تحسين موقفها في موضوع الملف النووي مع قدوم إدارة جو بايدن إلى السلطة.
يتجاوز النطق بالحكم في قضية الدبلوماسي الإيراني أسدالله أسدي ومعاونيه المتهمين بالتورط في مخطط لتفجير اجتماع للمعارضة الإيرانية في باريس عام 2018 الأبعاد القانونية، لينطوي على أبعاد سياسية مهمّة، في وقت تسعى فيه الولايات المتحدة إلى إعادة صياغة علاقاتها بالدول الأوروبية لتطويق واحتواء النظام الإيراني.
وتعدّ هذه الحادثة من المرات النادرة التي يُقبض فيها على دبلوماسي إيراني ويحاكم في دولة أخرى بتهمة تتعلق بالإرهاب، ولن يكون حكم الإدانة المتوقع بالنظر إلى خطورة العملية وثبوت قرائنها وأدلتها في صالح طهران التي مثلت لها أوروبا طاقة أمل في التخفيف من العقوبات الأميركية وفك الشلل الاقتصادي وتحسين موقفها في الملف النووي مع قدوم إدارة ديمقراطية في واشنطن.
ورغم أن الإجراءات القضائية بحق الخلية الإيرانية استمرت بمعزل عن التأثيرات السياسية، لكن من المرجح أن يتحول النطق بالحكم في هذه القضية إلى بيان سياسي بامتياز، لأن الأوروبيين الذين غضوا الطرف كثيرا عن ممارسات النظام الإيراني لمصالح ودوافع مختلفة سيوضعون أمام واقع جديد بعد التوثيق القضائي لجريمة إرهابية، لا تدين فقط أفرادا بل نظاما حرّك عملاءه لتفجير تجمع حاشد لمعارضين في قلب مدينة أوروبية.
من شأن إدانة مدبر الهجوم، وهو رجل المخابرات الإيراني والدبلوماسي الحالي أسدالله أسدي ومعاونوه في بلجيكا، إضفاء الطابع المؤسسي على إرهاب إيران في الخارج بوصفه إرهاب دولة.
حكم الإدانة للدبلوماسي أسدالله أسدي من شأنه أن يضفي الطابع المؤسسي على إرهاب إيران بوصفه إرهاب دولة
وكانت السلطات البلجيكية قد أحبطت في 30 يونيو 2018، بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية الفرنسية والألمانية مخططا إرهابيا ضد تجمّع “إيران الحرة للمعارضة” الذي ينشط من خلال المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، في “فيلبنت” إحدى ضواحي باريس، وحضر التجمّع نحو 100 ألف شخص.
والمتهم الرئيس في القضية هو أسدالله أسدي، أحد الدبلوماسيين الإيرانيين والسكرتير الثالث لسفارة النظام الإيراني في النمسا ويقيم في فيينا، وعمره 48 عاما، وهو أيضا ضابط كبير في وزارة الاستخبارات والأمن، وكان رئيس محطة وزارة الاستخبارات في أوروبا.
كلف أسدي العميل السري مهرداد عرفاني بالتسلل إلى تجمّع أنصار منظمة مجاهدي خلق، بهدف جمع المعلومات الاستخبارية، أما نسيمة نعامي العميلة المدربة في وزارة الاستخبارات التي سافرت بانتظام إلى إيران وتلقت تعليمات مباشرة، وزوجها أمير سعدوني عميل الاستخبارات السري، فدورهما كان تفجير قاعة المؤتمر.
الحكم إدانة لطهران
في يونيو 2017 استأجر أسدالله أسدي سيارة مع محمد رضا زائري لتحديد قاعة فيلبنت بالإضافة إلى الفنادق التي يقيم فيها الضيوف، وتحركات أسدي الذي جرت مراقبته عن طريق “منظومة تحديد المواقع العالمي” (GPs)، وقد كان مراقبا لأماكن سكن وتجمع منظمة مجاهدي خلق ومخططا لتفجير اجتماعهم في قاعة فيلبنت منذ 29 يونيو 2017، ترجمت التهديد الذي أطلقه مرشد إيران علي خامنئي في يناير 2018.
أكد خامنئي وقتها أن التظاهرات والانتفاضة في إيران تقف وراء تنظيمها منظمة مجاهدي خلق، وهدد بأن “هذا لن يمرّ دون عقاب” وقال “أولئك المتورطون الذين جرّتهم عواطفهم، سواء أكانوا طلابا أم غير طلاب، يجب التحدث إليهم وتوضيح الأمر لهم، لكن حساب المنافقين مختلف تماما”، وقصد بالمنافقين منظمة مجاهدي خلق.
بينما أشارت الأدلة الواردة في ملف القضية التي قدمها المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، إلى أن قرار عملية استهداف اجتماع مجاهدي خلق بباريس اتخذه مجلس الأمن الأعلى برئاسة حسن روحاني، ووافق عليه المرشد الأعلى، وبناء عليه جرى تكليف وزارة الاستخبارات والأمن الداخلي بتنفيذ القرار بالتنسيق مع وزارة الخارجية.
وكتب أسدي، قبل يومين من عقد تجمّع المعارضة الإيراني في باريس، إلى معاونه سعدوني أنه ومساعديه إذا نجحوا في زرع القنبلة داخل قاعة المؤتمر، سوف يتوجه شخصيا إلى “السيد أو الآغا” ويقدم تقريره له، ووفق تفكيك الرموز التي استخدمها أسدي من خلال الأجهزة الأمنية وضح أنه يعني بهذه الجملة أنه سيبلغ المرشد بنجاح العملية.
وورد في وثيقة أمن الدولة البلجيكية التي قرأها مكتب المدعي العام الاتحادي أن “مشروع الهجوم قد تمّ التخطيط له من قبل إيران وبدافع منها، حيث لم يكن الهجوم بدافع أو بمبادرة شخصية من أسدي”.
ويعدّ استخدام دبلوماسي كبير لتنفيذ تفجيرات في أوروبا أمرا استثنائيا ولم يحدث من قبل، ولهذا بدا واضحا أن طهران قلقة من المحاكمة، التي تكشف مجرياتها مدى أهمية العملية بالنسبة إلى طهران لدرجة تكليف أحد رجالها بتوجيه ضربة إلى معارضتها الرئيسية عبر استهداف زعيمتها في الخارج.
أكد البعد السياسي للعملية وتورط النظام الإيراني فيها، أن المستهدف الرئيسي منها هي مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية وزعيمة حركة مجاهدي خلق والعشرات من الشخصيات الدولية البارزة، من بينهم جون بولتون ورودي جولياني وإنغريد بيتانكورت.
كانت رجوي هدفا لمخطط اغتيال سابق في مارس 2018 عندما حضرت احتفالا بالعام الإيراني الجديد لأعضاء منظمة مجاهدي خلق في تيرانا بألبانيا، حيث تمّ إحباط العملية وتم طرد السفير الإيراني ودبلوماسي آخر، وكشف رئيس الوزراء الألباني إيدي راما بعض تفاصيل القضية في 18 أبريل 2018، وجرى طرد دبلوماسيين على صلة بمخطط الاغتيال من هولندا.
عين النظام الإيراني ستكون مصوبة على جلسة النطق بالحكم في الرابع من فبراير الجاري، لأن طهران إذا ما خابت مساعيها في تبرئة دبلوماسييها وعملائها ستكون قد أهدرت مجهودها الذي بذلته على مدى سنوات في سياق محاولة إظهار نفسها شريكة دولية في مكافحة الإرهاب.
ومن شأن قرار الإدانة أن يثبت العكس ويظهر طهران كوجه آخر للإرهاب العابر للحدود والذي لا يهدد فحسب دول الشرق الأوسط، بل كذلك أمن واستقرار دول أوروبا، بالنظر إلى أن هذه ليست المرة الأولى التي تستهدف فيها رموزا للمعارضة الإيرانية بالخارج، حيث نفذت المخابرات الإيرانية عمليات في النمسا وألمانيا وسويسرا وإيطاليا، لكنها المرة الأولى التي يُحاكم فيها دبلوماسي وعملاء ويصدر حكم إدانة.
يُعدّ هذا التطور ورقة في يد قوى الضغط داخل أوروبا لحث حكومات الدول الغربية لتغيير استراتيجيتها حيال إيران وصولا إلى ممارسة أقصى الضغوط الهادفة لدفعها باتجاه تغيير سلوكها الإرهابي في العالم وفي الشرق الأوسط خصوصا، بعدما ذاقت دول أوروبا من نفس الكأس، وهو ما يُعدّ دعما مضافا للولايات المتحدة التي تحرص على تشكيل اصطفاف إقليمي ودولي في مواجهة تعقيدات التحدي الإيراني.
كشفُ الوسائل الإيرانية التي تعتمدها تهديدا للاستقرار الأوروبي يعيدُ رسم معالم سياسات بعض الدول في العديد من الملفات بمناطق مختلفة من العالم تشتبك معها طهران بشكل أو بآخر، في مقدمتها فرنسا التي تتجنب الخيارات التصعيدية مع طهران، فهي تعارض مع ألمانيا، إعادة واشنطن العمل بالعقوبات التي جرى رفعها بموجب الاتفاق النووي، وتحول دون توسيع لائحة الإرهاب بإدراج حزب الله بجناحيه السياسي والعسكري فيها.
ومن شأن تظهير الدور الإيراني في عملية إرهابية كانت تستهدف فرنسا، فضلا عن الأدوار السلبية التي تلعبها طهران وحزب الله الموالي لها ضد مساعيها ومبادراتها الإنقاذية في لبنان، الدفع باتجاه مراجعة سياسة التعامل مع إيران وأذرعها، وعدم الاكتفاء كما جرى في السابق بفرض عقوبات على مسؤولين إيرانيين وحظر جمعيات لها علاقة بطهران ومصادرة ممتلكاتها، فجميعها إجراءات لم تثنها عن التخطيط لتنفيذ عملية إرهابية بهذا الحجم في قلب باريس.
بعد عملية فيلبنت وإدانة مرتكبيها يتوجب طرح آليات دولية لمواجهة الإرهاب العابر للحدود، تتضمن أساليب مغايرة للتعامل مع السفارات والمراكز الدبلوماسية للنظام الإيراني بدول أوروبا، حيث لعبت هذه المكاتب دورا محوريا مكن النظام الإيراني من تسهيل تنفيذ أنشطته الإرهابية بمناطق مختلفة من العالم تحت ستار الحصانة الدبلوماسية.
أسرار عملية فيلبنت
في القطار بين فيينا وسالزبورغ في السابع عشر من مارس 2018، ناقش أسدي العملية مع نسيمة نعامي وأمير سعدوني، وكانت الخطة الأولية تدور حول نقله للقنبلة من طهران إلى النمسا وتسليمها لهما، بعدها يتوليان تفجيرها في القاعة.
أحضر أسدي القنبلة ووضعها في حقيبة دبلوماسية بمقصورة الشحن للطائرة خلال رحلة طيران نمساوية بطائرة أيرباص أقلت على متنها 240 راكبا ووصلت إلى النمسا في 22 يونيو 2018، وأكد ذلك لاحقا جهاز الأمن البلجيكي في بيان رسمي.
وبعد مضي ثلاثة أيام علم مسؤولون أمنيون من بلجيكا وفرنسا بالمخطط الإرهابي من مصادر استخبارية موثوقة، وتم تأكيد معلومات تفيد بأن ضابط المخابرات الإيراني السابق والدبلوماسي الحالي بسفارة طهران بالنمسا أسدالله أسدي، قد سلم كلا من نعامي وسعدوني المتفجرات وأمرهما بتفجير قاعة فيلبنت أثناء تجمّع منظمة مجاهدي خلق المعارضة الإيرانية.
وقال المدعي الاتحادي الألماني، في 11 يوليو 2018، إن “أسدي سلم المتفجرات شخصيا لسعدوني ونعامي في مدينة لوكسمبورغ، وأكد الزوجان الإيرانيان أن أسدي أعطاهما المتفجرات والمفجّر، علاوة على تلقيهما مبلغا كبيرا من المال مقابل قيامهما بالمهمة”.
غادر سعدوني ونعامي منزل نعامي صباح الثامن والعشرين من يونيو 2018 ليتوجها إلى لوكسمبورغ في سيارة مرسيدس، وفي محل “بيتزا هات” في لوكسمبورغ التقيا بأسدي واستلما القنبلة وعادا إلى بلجيكا، في تلك الأثناء كانوا جميعا تحت مراقبة الشرطة، وفي هذا اللقاء منحهما أسدي مبلغا كبيرا من المال قدر بنحو 20 ألف يورو.
ووفقا لمكتب المدعي الفيدرالي البلجيكي “تم العثور على ما يقرب من 500 غرام من مادة “ثلاثي بيروكسيد الأسيتون” (TATP) وجهاز تفجير في حقيبة أدوات الزينة الصغيرة أثناء تفتيش سيارة سعدوني ونعامي.
تم العثور لاحقا في سيارة أسدالله أسدي على دفتر ملاحظاته وفیه تعليمات باللغة الفارسية حول كيفية تفجير القنبلة وكيف يتصرف العملاء بعد تنفيذ العملية، وبالدفتر رمز أسدي للقنبلة بكلمة سر وهي “بلاي ستيشن 4”.
سجل سعدوني ونعامي اسميهما كمتطوعين في التجمّع السنوي لحركة مجاهدي خلق الإيرانية لتسهيل دخولهما المؤتمر، وتلقت أجهزة الأمن البلجيكية بلاغا عن الهجوم لتحاصرهما القوات بالقرب من بروكسل.
ثم توجه سعدوني ونعامي في 30 يونيو 2018 إلى باريس لتنفيذ العملية وأثناء سيرهما بالسيارة تبادلا الرسائل مع أسدي الذي نبههما إلى عدم الاتصال أثناء الوجود بقاعة فيلبنت ومعاودة الاتصال بعد مغادرة القاعة، وفي إحداها تخبره نعامي “سنحظى بالكأس” وأن كل شيء على ما يرام.
قامت الشرطة بإبلاغ القاضي بتحرك سعدوني ونعامي لتنفيذ العملية فأصدر أمرا بإيقافهما والقبض عليهما، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف يوم 30 يونيو 2018 أوقفت الشرطة سيارة سعدوني ونعامي المرسيدس واعتقلتهما، وعثرت على القنبلة بداخل السيارة، وعند محاولة إبطال مفعولها أصيب أحد أفراد الشرطة.
تم القبض على سعدوني وزوجته نعامي في بروكسل، واعتقال مهرداد عارفاني العنصر الرابع في العملية في فيلبنت، بينما قُبض على أسدي في اليوم التالي بالقرب من فرانكفورت، وهذان الأخيران تجري محاكمتهما بصفتهما عميلين في جهاز المخابرات الإيرانية ومتورطين في تدبير عمل إرهابي بدولة أوروبية، وفي 9 أكتوبر 2018 جرى تسليم أسدالله أسدي من ألمانيا إلى بلجيكا، ووافقت محكمة ولاية بامبرغ العليا على طلب المدعي العام بمحاكمته.
في السادس من يوليو 2018 أقام مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني من خلال قاضي التحقيق في المحكمة العليا دعوى ضد المواطن الإيراني أسدالله أسدي، ليتم القبض عليه بتهمة التخطيط والتورط في عمليات قتل.
صرح وزراء الداخلية والخارجية والاقتصاد الفرنسيون في بيان مشترك في الثاني من أكتوبر 2018، أنهم قرروا تجميد أصول وزارة الاستخبارات الإيرانية واثنين من مسؤوليها وهما أسدالله أسدي وسعید هاشمي مقدم نائب وزیر المخابرات الإیرانی بسبب “هذا العمل الخطير للغاية على أراضينا”، وتم وضعهما على قائمة الإرهاب في فرنسا، ثم أدرجهما الاتحاد الأوروبي بقائمة الإرهاب في يناير 2019.
وأكد صحافي مشترك لمكتب المدعي العام الاتحادي وجهاز الأمن البلجيكي، أن عملية القبض على هذه الشبكة الإيرانية الخطيرة تمت بفضل المعلومات التي جمعتها إدارة الأمن الفيدرالية البلجيكية، موضحا أن الإدارة قامت بجمع وإثراء هذه المعلومات الأساسية، ليصبح ضبط أعضاء الشبكة الإرهابية ممكنا وبشكل خاص من خلال تبادل المعلومات مع أجهزة استخبارات أجنبية.
وأسهم التعاون بين مكتب المدعي العام الاتحادي ووزارة الأمن الداخلي والسلطات القضائية الفرنسية والألمانية، في منع وقوع هجوم إرهابي، وهو ما فتح الطريق أمام إمكانية إدانة إيران جنائيا وسياسيا، وتوقع حدوث تأثيرات كبيرة على توجهات الولايات المتحدة والدول الأوروبية لإعادة صياغة العلاقة مع طهران حاليا.