سوسيولوجيا "الباك" الجزائري

تحتفظ العائلة الجزائرية بتقاليدها الاجتماعية عند ظهور نتائج الامتحانات الدراسية، وعادة ما تكون قيمة الهدايا حسب الشهادة، فتبدأ متواضعة في شهادة التعليم الابتدائي وتنتهي معتبرة في شهادة البكالوريا، وتمر متوسطة في شهادة التعليم المتوسط، إلا أنها في السنوات الأخيرة أخذت بعدا سوسيولوجيا يستدعي التوقف عندها من طرف الخبراء والمختصين.
بات الاهتمام الشعبي بالنوابغ وأصحاب المعدلات العالية لافتا، وإذ كان في العادة بعض الزغاريد والألعاب النارية وتبادل التهاني عبر شبكات التواصل الاجتماعي وتوزيع المشروبات والحلويات على الأهل والجيران، فإن دخول تجار كبار ورجال مال على الخط يعطي الانطباع بأن هناك في المجتمع الجزائري من يقدر العلم والمتعلمين والعلماء.
تبرع أحد رجال الأعمال بنحو 70 ألف دولار أميركي لصاحب أعلى معدل في شهادة البكالوريا، وهو الأول من نوعه منذ استقلال البلاد في ستينات القرن الماضي، وأضاف له آخر طقم أثاث من النوع الجيد، وتركزت الأضواء على أصحاب المعدلات العليا، بمن فيهم التلميذ الذي كان يقيم مع عائلته في خيمة بمدينة جنوبية، وتلميذة ينقلها والدها يوميا على متن دراجة نارية ويقطع بها 100 كيلومتر ذهابا وإيابا، لأن العائلة تقيم في منطقة معزولة في عمق البلاد.
وإذ حاولت التفاهة اختطاف الإنجاز الذي حققه ابن مدينة تيبازة، بإطلاق بعض المدونين على شبكات التواصل الاجتماعي، حملة تنمر عليه بسبب هندامه المتواضع، إلا أن موجة السخط والغضب أدخلت هؤلاء في جحورهم، وخلا الفضاء للمهللين والمبتهجين بصاحب أول معدل في الشهادة المذكورة منذ استقلال البلاد، وهذا في حد ذاته يمثل انتصارا لقيمة العلم في المجتمع.
ربما التلميذ الوحيد الذي ظهر متواضعا، صامتا، غير مكترث لا بهندامه، ولا بالهالة التي أحيطت به، وبدا أن ما يجول في ذهنه وخاطره أبعد بكثير من اقترابه من العلامة الكاملة في الامتحان، وهي إحدى بوادر العباقرة الذين يحملون على عاتقهم مجتمعاتهم والإنسانية معا إلى تحقيق الإنجازات والمكاسب الحضارية والعلمية.
مبادرة رَجُلي المال تنطوي على تحول ملحوظ في نظرة المجتمع إلى العلم والمتعلمين، فعطيتهما تتعدى حدود التقليد الاجتماعي إلى رغبة في الاحتفاء ومساعدة من يتوسم فيهم تقديم مساعدة وخدمة للمجتمع للخروج من وطأة التخلف والانغلاق، وتؤشر إلى إدراك أمثال هؤلاء أن مصير ومستقبل البلاد برمتها مرهون بما يجود به النوابغ وما تجود به قرائحهم لمجتمعهم.
يقول أحدهم “إننا نعيش فوضى الخير”، في إشارة إلى ارتباك الأولويات التي تستحق جود الكرماء، فقد دأب الناس على الإحسان والتبرع للدور الدينية والكوارث والحالات الإنسانية الطارئة والمواسم والأعياد، بينما يجري تجاهل المرافق الدراسية والصحية رغم دورهما في قيادة المجتمع أو المجموعة البشرية إلى بر النجاة.
في وقت سابق انفرد نظام القرية “تاجماعت” البربري، بالمساهمة في تشييد وصيانة المرافق المدرسية ومساعدة المتمدرسين على التحصيل والنقل والغذاء، وتجلت نتائج ذلك في تصدّر محافظات القبائل لنتائج الامتحانات الدراسية، والآن يبدو أن الاهتمام بالعلم أخذ طابعا أكثر جدية، وأن الرسالة لم تعد مجرد تقاليد اجتماعية بل تعبئة المال لخدمة العلم والمتعلمين.
فالمبادرة على طابعها المحدود بإمكانها أن تكون قاطرة تجر رجال المال والأعمال والقطاع الخاص وحتى الحكومي، لرعاية النوابغ فهم الوحيدون الذين بإمكانهم إخراج المجتمع من النفق المسدود، وأن التبرع لصناع الاستعراض في المسارح والملاعب لم يعد يجدي نفعا.