سوريا: كيف لدولة اقتصادها منهار أن تحمي حقوق الإنسان

امنحوا الحكومة السورية التي أظهرت حتى هذه اللحظة حسن نواياها مهلة عام أو عامين بعد رفع العقوبات كاملة وإن ثبت أنها تبطن عكس ما تظهر أعيدوا العقوبات ثانية.
السبت 2025/04/26
شعب أنهكته العقوبات

من جاء أولًا، البيضة أم الدجاجة؟ السؤال ليس بسيطًا. هو واحد من أقدم الألغاز وأكثرها إثارة للجدل، استخدمه الفلاسفة الإغريق وسيلة للتفكير في قضايا السببية والتسلسل الزمني، وفي الثقافة الشعبية أصبح رمزًا لتحديات تبدو بلا إجابة.

هذا هو حال العقوبات المفروضة على سوريا وانقسام العالم حولها بين من يرى أن رفع العقوبات يجب أن يأتي أولًا، وبين من يشترط ضمان حرية الإنسان وحقوق الأقليات ومكافحة الإرهاب قبل رفع العقوبات.

لكن، كيف لدولة اقتصادها مفلس ومنهار أن تركز على محاربة الإرهاب وتصون حقوق الإنسان؟ هذا ما تأمل سوريا أن تصل إلى إجابة عليه وتعمل كل ما بوسعها لإرضاء الجميع وإثبات حسن نواياها. وكانت زيارة وزير المالية محمد يسر برنية وحاكم مصرف سوريا المركزي عبدالقادر الحُصرية إلى واشنطن، ومشاركتهما في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، خطوة في هذا الاتجاه.

الزيارة إلى واشنطن أتت بعد قصة طويلة من العقوبات، بدأت قبل عام 2011، حين صنفت سوريا “دولة داعمة للإرهاب” كان ذلك في ديسمبر 1979. وفي مايو 2004، طُبقت قيود إضافية بموجب القانون الأميركي “قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية”.

رفع العقوبات لن يكون نهاية المطاف، بل بداية الطريق نحو استعادة سوريا مكانتها، وعودة الحياة إلى شعب أنهكته الحروب والسياسات العقابية

ومع اندلاع الحرب الأهلية عام 2011 أصبحت العقوبات أكثر شمولًا، لتطال الحظر التجاري على قطاعات الطاقة والمالية، ومنع الشركات الأميركية من التعامل مع سوريا. واتسع نطاق العقوبات مع تطبيق “قانون قيصر لحماية المدنيين” في يونيو 2020.

فكيف أثرت 45 سنة من العقوبات على سوريا؟

المنظمات الدولية قدّرت مجمل خسائر الناتج المحلي السوري بنحو 800 مليار دولار خلال 14 عاما من النزاع. فتسعة من كل عشرة سوريين يعيشون تحت خط الفقر. وواحد من كل أربعة عاطل عن العمل، فيما انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من نصف المستوى الذي كان عليه عام 2011.

السوريون اليوم يعانون من أزمة اقتصادية غير مسبوقة تشمل انهيار العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، ونقصا حادا في الموارد الأساسية، وضعف الخدمات العامة، وتضررا واسع النطاق للطرق والجسور والمستشفيات والمدارس، وانهيار قطاع الطاقة. وهناك الملايين من النازحين، داخليًا وخارجيًا.

كلفة إعادة بناء سوريا تقدر بين 300 و500 مليار دولار، تشمل إصلاح البنية التحتية، مثل الطرق والجسور وشبكات الكهرباء والمياه، بالإضافة إلى إعادة بناء المنشآت الصحية والتعليمية. تضاف إليها كلفة إعادة توطين النازحين التي تتطلب المليارات من الدولارات لتوفير السكن والخدمات الأساسية. وهناك حاجة إلى دعم مالي كبير لإعادة تشغيل الاقتصاد، بما في ذلك استثمارات في الزراعة والصناعة والطاقة.

في ظل معدلات النمو الاقتصادية الحالية لن تتمكن سوريا من استعادة مستوى الناتج المحلي الإجمالي لفترة ما قبل النزاع قبل حلول العام 2080، وفق تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة في فبراير. وبوجود العقوبات تصبح المهمة أكثر تعقيدا.

الأجدر بالمجتمع الدولي التركيز على استهداف الأفراد المسؤولين عن الانتهاكات بدلًا من فرض عقوبات شاملة تُعاقب الشعب بأكمله، وتقديم مساعدات دولية لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة

في 8 ديسمبر 2024 سقط النظام السوري، ولم تسقط العقوبات. وباستثناء تخفيف بعض العقوبات، لا توجد مؤشرات واضحة حتى الآن على رفعها بشكل نهائي.

دول الاتحاد الأوروبي ترى أن أيّ تعليق شامل للعقوبات سيكون مشروطا بالتزام الإدارة السورية الجديدة بمسار انتقال الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان. وهو ما تشاركها فيه بريطانيا والولايات المتحدة، التي تتخذ موقفا أكثر تشددا.

إذا كانت العقوبات طبقت بهدف الضغط على نظام سياسي لم يعد له وجود، فهل هناك ما يبرّر استمرارها في ظل ما تسببه من معاناة للشعب بعد رحيل النظام؟

في حالة سوريا، كانت العقوبات تُبرّر بأنها وسيلة للتأثير على نظام سياسي متهم بارتكاب انتهاكات، لكن مع مرور الوقت، بات واضحًا أن العقوبات التي كان الهدف منها رفع الظلم عن السوريين، تحوّلت إلى أداة للظلم، وسلاح أصاب الشعب السوري في صميم حياته، وسياسة عقابية تتجلى آثارها في كل جوانب الحياة؛ من انهيار البنى التحتية والخدمات الأساسية إلى تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، يدفع السوريون الثمن الأكبر لها.

رغم ذلك، وفي تناقض صارخ، يطالب المجتمع الدولي الحكومة السورية بمكافحة الإرهاب وتطبيق معايير حقوق الإنسان، في الوقت الذي تعاني فيه من إفلاس اقتصادي وتدمير للبنية التحتية.

كيف يمكن لدولة تعاني من نقص في الموارد أن تُركز على هذه الأولوية؟

الأجدر بالمجتمع الدولي التركيز على استهداف الأفراد المسؤولين عن الانتهاكات بدلًا من فرض عقوبات شاملة تُعاقب الشعب بأكمله، وتقديم مساعدات دولية لإعادة بناء البنية التحتية المدمرة، بما يُمكّن الشعب السوري من استعادة حياته الطبيعية.

رفع العقوبات يجب أن يُنظر إليه كخطوة إنسانية قبل أن يكون قرارًا سياسيًا.

إذا كانت العقوبات طبقت بهدف الضغط على نظام سياسي لم يعد له وجود، فهل هناك ما يبرّر استمرارها في ظل ما تسببه من معاناة للشعب بعد رحيل النظام؟

المستقبل في سوريا قد يبدو غامضًا، لكنه يحمل أملًا حقيقيًا إذا توفرت الإرادة الدولية لتحقيق تغيير إيجابي. السوريون أثبتوا أنهم قادرون على النهوض رغم الظروف، لكنهم يحتاجون إلى الدعم وليس إلى العوائق، وإلى الشراكة الدولية وليس إلى العقاب الجماعي.

رغم كل هذه المعاناة، أثبت السوريون قدرتهم على النجاح والإبداع حتى في ظروف النزوح واللجوء. لقد أنشأوا أعمالًا، تفوّقوا أكاديميًا، وحققوا إنجازات على مستوى العالم. هذه القدرات تدل على أن لدى السوريين إمكانيات هائلة يمكن استثمارها لإعادة بناء وطنهم إذا رُفعت العقوبات وأُتيحت لهم الفرصة.

في ظل “دجاجة” العقوبات المفروضة على السوريين، يُصبح الحديث عن “بيضة” الديمقراطية وحقوق الإنسان أقرب إلى شعارات فارغة، لأنها لا تأخذ في الحسبان الواقع القاسي الذي يعيشه المواطن السوري.

هل يحمل المستقبل تغييرًا؟ ربما، إذا كانت هناك إرادة دولية تنظر إلى الشعب السوري كشريك في البناء، وليس مجرد لغز غير قابل للحل. زيارة الوفد السوري إلى واشنطن قد تسهم في حل لغز البيضة والدجاجة، وتكسر عزلة سوريا، وتعيد دمجها في النظام المالي العالمي.

رفع العقوبات لن يكون نهاية المطاف، بل بداية الطريق نحو استعادة سوريا مكانتها، وعودة الحياة إلى شعب أنهكته الحروب والسياسات العقابية.

يبدو أن بريطانيا استفاقت، ونأمل أن يحذو حذوها الجميع، ورفعت الخميس تجميد أصول عن وزارتي الدفاع والداخلية وعدد من أجهزة المخابرات كانت قد فرضته في عهد بشار الأسد.

وأظهرت مذكرة نشرتها وزارة المالية البريطانية أن وزارة الداخلية السورية ووزارة الدفاع وإدارة المخابرات العامة من بين 12 كيانا لم تعد خاضعة لتجميد الأصول.

امنحوا حكومة الشرع التي أظهرت حتى هذه اللحظة حسن نيّة، مهلة عام أو عامين – بعد رفع العقوبات كاملة – وإن ثبت أنها تبطن عكس ما تظهر أعيدوا العقوبات ثانية.

9