سوريا تستذكر مبدع الخط اللامتناهي أدهم إسماعيل في معرض استعادي

لم يعمّر التشكيلي السوري الرائد أدهم إسماعيل طويلا، غير أن السنوات القصيرة التي قضاها رساما كانت زاخرة بالعطاء الفني والتنوّع في الأساليب والموضوعات، فرسم الأرض والحركة والطبيعة والزهرة والمرأة، بجماليات الحرف العربي والخط اللامتناهي رمزا وتجريدا ليغدو مدرسة فنية ملهمة للأجيال التي لحقته.
دمشق - شكل المعرض الاستعادي لأعمال الفنان التشكيلي السوري الراحل أدهم إسماعيل (1922 - 1963) المقام حاليا في صالة جورج كامل الدمشقية، فرصة غنية لمحبي الفن التشكيلي للاطلاع على تجربة هذا الفنان بمختلف مراحلها عبر مسيرته التي امتدت لعشرين سنة.
والمعرض الذي يضم نحو ثمانين عملا يستعرض بتسلسل كرونولوجي تنوّع تقنيات وأدوات الراحل الفنية التي توزّعت بين الاسكتشات والدراسات واللوحات بتقنيات ومواضيع وأساليب متنوّعة، عكست غنى تجربة إسماعيل وتعدّد رؤاه الفنية خلال مسيرته القصيرة نسبيا باعتباره فنانا رائدا ومجدّدا وباحثا في الفن التشكيلي السوري بشكل خاص والعربي بشكل عام.
وتحضر المرأة بقوة في معظم لوحات المعرض، وقد تناول إسماعيل هذا الموضوع بمختلف الحالات مع توجهه نحو البورتريه والطبيعة، إلى جانب توظيفه للحرف في البعض من الأعمال مع مساحة تجريب كبيرة كان يعمل عليها في هذا السياق فاتحا آفاقا واسعة أمام من أتى بعده من الفنانين.
الفنان الراحل عبّر مبكّرا عن حسّه الحداثي بتصويره الزهرة والمرأة، بروح عربية بالخط واللون وعلاقاتهما اللامتناهية
وبدا واضحا من لوحات المعرض مدى التجريب الذي اشتغل عليه الراحل على صعيد التقنيات لينوّع في توجهه الفني بين المائي والباستيل والحبر والزيتي والرصاص إلى جانب فن الحفر بعدة تقنيات أيضا.
لوحاته الأولى “الزجل السوري” (1947) و”ألحان وعطور” (1950) و”الدبكة” (1950) تدلّ على محاولاته البكر وتكشف عن شخصية فنية لها استقلالها.
وقد برزت شهرته في العام 1951 مع لوحة “العتّال” التي استخدم فيها “الخط اللامتناهي” محدّدا الشكل عن طريقه. وفي العام التالي سافر إسماعيل إلى إيطاليا لدراسة الفن التشكيلي. وتؤكّد أعماله أن الدراسة صقلت تجربته. ولوحة “الفارس العربي” (1953)، التي عبّرت عن نهضة الأمة العربية وانطلاقتها، تدلّ على نضج أسلوبه في التعبير الفني وارتباطه الصميم بالقضايا القومية.
وفي السنوات (1956 – 1961) التي أمضاها بين درعا والقاهرة ودمشق، رسم العديد من اللوحات التي عبّرت عن الأحداث السياسية المعاصرة، وفق رؤيته الفنية الخاصة، وبصيغة فنية ازدادت متانة وقوة، ومنها “وراء القضبان” (1956)، “بور سعيد” (1958)، “الطائر يفكّ قيده” (1959) و”زلازل أغادير” (1960).
ثم اتجه إلى الموضوعات الجمالية ما بين 1961 و1963 وإلى استعمال الحرف العربي موضوعا لتكوينات فنية جديدة، وتلاقت أفكاره هذه مع مبادرات الفنان محمود حماد في مجال الحرف.
وقد عبّر الراحل عن حسّه الجمالي بتصوير الأرض والحركة والطبيعة والزهرة والمرأة، وعمّق تجربته الفنية في موضوعات أخرى وطوّرها كي تنسجم الحركة مع المساحة واللون حتى غدت تبدو في كل أعماله معبّرة عن رغبته في تقديم فن حديث بروح عربية بالخط واللون وعلاقاتهما اللامتناهية.
وهكذا يكون الفنان الراحل قد أسهم في تجديد لغة التعبير الفني في سوريا، وفي اكتشاف ما يملكه التراث العربي من أشكال فنية يمكن استخدامها للتعبير عن مضامين متنوّعة.
وعن المعرض قال جورج كامل مدير الصالة “الفنان الراحل أدهم إسماعيل يعتبر من أهم رواد الفن التشكيلي السوري، وقد استفاد من دراسته في إيطاليا في خمسينات القرن الماضي ليقدّم أعمالا فنية معاصرة بمفهوم عربي ذي طابع قومي، ليترك من خلالها أثرا كبيرا في المحترف التشكيلي السوري كفنان وباحث في الخط واللون والموضوع”.
وأوضح كامل أن المعرض يقدّم أعمالا من مقتنيات الصالة تنتمي إلى مختلف مراحل تجربة الفنان إسماعيل منذ بداياته الفنية فترة الأربعينات من القرن الماضي وحتى وفاته عام 1963، مبينا أن المعرض يعتبر الأول لأعمال الراحل كمعرض استعادي خاص منذ سنوات طويلة.
ويعتبر أدهم إسماعيل أحد الرموز الرائدة لحركة الفن التشكيلي السوري المعاصر، والرائد الأول الذي سكنه هاجس الخروج من عباءة الفن الغربي، والتأسيس لفن عربي الملامح والشكل والمضمون، لاسيما وقد عانى وهو ابن لواء إسكندرون من التشرد والنزوح عن مسقط رأسه، غير أن رحيله المبكّر اغتال الوعود الطيبة والكثيرة التي كانت تحملها موهبته الكبيرة المسلحة بهاجس نبيل هو استنهاض فن عربي بروح حديثة.
كان جل اهتمام إسماعيل تحقيق لوحة فنية حديثة السمات والانتماء، متفرّدة الخصائص والمقوّمات الشخصية والقومية. أي أن فنه هو الفن العربي المطّلع على فنون الغرب الحديثة، وعلى الفنون العربية الإسلامية التي سبقت فنون الغرب، في استشراف حقول واتجاهات فنية عالمية معاصرة ومتقدّمة.
وأدهم إسماعيل من مواليد مدينة أنطاكيا في لواء إسكندرون السليب عام 1922، حصل على شهادة الدراسة الثانوية عام 1945، واكتشف في هذه المرحلة قدراته الفنية وعمل مدرسا للتربية الفنية في حلب ثم في دمشق وزار الكثير من البلدان العربية والأجنبية التي أقام فيها مجموعة من المعارض الجماعية والفردية.
وفي العام 1956 تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة في روما قسم الديكور، كما تعلم فن الميدالية والإفريسيك بمعاهد إيطاليا، ليعمل بعدها مدرسا للتربية الفنية في ثانويات بدمشق وفي كلية الفنون الجميلة.
وابتكر إسماعيل أسلوبا حديثا استقاه من التراث العربي التشكيلي، ومن الخط اللامتناهي في هذا التراث، ليعالج موضوعات سياسية واجتماعية معاصرة، وفق رؤيته الفنية الخاصة، ثم انتقل إلى استعمال الحرف العربي موضوعا لتكوينات فنية جديدة. والبعض من أعماله محفوظ في المتحف الوطني بدمشق ولدى وزارة الثقافة السورية وفي متحف دمّر للفنون.
ويعرف أدهم إسماعيل كواحد من الأشقاء الأربعة، وكلهم فنانون تشكيليون سوريون، وهم صدقي ونعيم وعزيز إسماعيل.
وتوفي أدهم إسماعيل في دمشق عام 1963، بينما توفي صدقي عام 1972، وتوفي نعيم عام 1979، في حين توفي عزيز العام 2019. والأخير، أي عزيز، لعب دورا كبيرا في تعليم الآلاف من السوريين أصول الفن التشكيلي في المركز الذي يحمل اسم أخيه الراحل أدهم إسماعيل، وفي زيادة الاهتمام بالفن التشكيلي في سوريا، بالإضافة إلى الحفر والنحت وتهيئة الطلاب للانتساب لاحقا إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق.
ويعدّ مركز أدهم إسماعيل للفنون أحد أهم المعاهد الفنية التشكيلية في العاصمة السورية دمشق، وفيه يدرس عادة من يريد الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق لتعلم بعض الأساسيات المهمة في الفن التشكيلي.