سوريا تحتفي باليوم العربي للمسرح بخمسة عروض تنتصر للحياة

المسرح حدث إبداعي متميز ومتجذر في تاريخ الفعل الإنساني والحضاري، فيه تتعالى قيم الحياة والتجارب الإنسانية وتقدم خلاصات حكايات البشر في تشكيلات قصصية تتضمن فنونا عديدة. في المسرح تتكثف الحياة ويظهر الإنسان بمواجعه وأحلامه، فيحاور المبدع الجمهور ثم يحاور الجمهور الناس لتبدأ دورة الفكر والجمال بتحقيق أعلى غاياتها بأنسنة البشر.
بمناسبة يوم المسرح العربي الموافق للعاشر من يناير الجاري قدمت المديرية العامة للمسارح والموسيقى في وزارة الثقافة في سوريا احتفالية خاصة، تضمنت تقديم خمسة عروض مسرحية في خمس محافظات.
برنامج عروض الاحتفالية تضمن تقديم مسرحيات: “الثعلب والعنب” في دمشق على خشبة مسرح الحمراء من إخراج ليال الهادي، وفي حماة مسرحية “الكلام القديم” إخراج يوسف شموط على خشبة المركز الثقافي، وفي طرطوس عرضت مسرحية “ظلال البقاء” للمخرج سامي مرشد على خشبة المسرح القومي، وفي الحسكة قدمت مسرحية “لكل من يعشق الحياة” إخراج إسماعيل خلف على خشبة مسرح المركز الثقافي، وفي السويداء مسرحية “وحش طوروس” إخراج وئام البدعيش على خشبة مسرح مديرية الثقافة.
وعن الاحتفالية بيّن مدير عام مديرية المسارح والموسيقى عماد جلول أن المديرية تسعى من خلال هذا النشاط لرد الجميل إلى كل فنان مسرحي لم يترك المسرح، وكان هاجسه تقديم المزيد من الأعمال، تاركا وراءه الكثير من بريق العمل في فنون موازية.
مسرح ورسائل

رفيق علي أحمد: المسرح بصيص أمل ضد ظلام التطرف بشقيه الأصولي والاستهلاكي
في دمشق قدمت ضمن الفعالية مسرحية “الثعلب والعنب” للكاتب البرازيلي غيليرمي فيجيريدو، وهي من أهم الأعمال المسرحية البرازيلية التي قدمت على خشبات المسرح في العالم، وعرضت عشرات المرات وبلغات كثيرة لما يحمله نصها من معان عميقة تتناول مفاهيم الحب والحرية، وهو العرض الذي شهد صراعات عنيفة بين العبد إيسوب وسيده الفيلسوف المدعي الذي استغله أبشع استغلال.
يحفل النص بصراعات مريرة يعيشها إيسوب العبد الذميم، الذي يملكه سيد يرفض أن يعتقه، كونه يعتبره ثروة له، يقدم له قصصا وخرافات وحكما تزيد من معرفته، ويتباهى أمام مجالس الحكماء بمعرفتها. وما إن يدخل العبد بيت سيده ويبدأ الحديث الحكيم حتى تشعر زوجة السيد التي تعيش مع زوجها الفيلسوف بالميل نحوه وترغب فيه وترى فيه الحكيم الذي سيعوضها عن حياتها البائسة مع زوجها المدعي. لكنه يرفض مقابلتها بالاهتمام ذاته ويبقى متحفظا إزاءها. وفي يوم من الأيام يأتي السيد بصديق محارب، يتباهى أمامه بالقوة والهيبة، وبعد مجلس شراب صاخب يثمل ويتحدى المحارب بأنه يستطيع أن يشرب ماء البحر ويراهن على ذلك بكامل ثروته وبيته، وبعد الصحوة ومطالبة القائد بالتنفيذ يهرع السيد إلى العبد طالبا منه العون، فيطلب العبد منه أن يعتقه جزاء ذلك، لكنه يرفض، وأخيرا يقبل حتى ضغط الحاجة لوجود الحل.
وفي لحظة يوجد إيسوب الحل وينقله إلى السيد قائلا له “قل لهم أن يعزلوا مياه البحر عن مياه الأنهار حتى أشربه”. فيذهب ذلك السيد إلى مجلس التحدي ويخلص نفسه. ونتيجة لذلك وتحت الضغط من محيطه يعتق السيد إيسوب. ولكن كهنة المعبد يصنعون له كمينا باتهامه بسرقة شمعدان منه، وتكون عقوبة السارق القتل قذفا من أعلى الجبل لو كان حرا، بينما لو كان عبدا فإن سيده يقرر ما هو العقاب، فيطرح السيد على إيسوب أن يعود عبدا عنده لكي ينجو من الموت، لكن إيسوب يرفض ويقبل أن يموت حرا على أن ينجو عبدا. قدمت المسرحية من خلال عرض زائر من مدينة السويداء، سبق وأن حقق الجائزة الأولى في مهرجان السويداء الخامس الذي أقيم في نهاية العام الماضي.
اللعبة المسرحية عبارة عن حوار متعدد الأشكال والاتجاهات ودائما يكون في سبيل الإنسان وحقه في حياة أفضل
عبر التاريخ الإنساني كان للمسرح وجوده الخاص والفاعل في بناء وتطور الحياة، ومن خلاله قدم الإنسان الكثير من الإبداعات التي شملت فنون الكتابة والخطابة والشعر والتمثيل والضوء، وظهرت لفن المسرح قواعده ونظرياته التي وجدت منذ آلاف السنين. وكما وجد المسرح في تراث الأمم، وصل إلى العرب؛ وكان أول عهدهم به في الشام من خلال تجربتي جورج أبيض ثم أبي خليل القباني، ثم انطلق في كل أرجاء العالم العربي وحظي في مصر أرض الفن بالكثير من النجاح.
ووصل في مرحلة مّا إلى ذروة من النجاح شكل فيها معلما خاصا في التاريخ الإبداعي العربي الحديث. لكنه تماشيا مع انحدار حال العالم العربي برمته انحدر معه وصار في مهب الريح، فتعالت أصوات من كل حدب وصوب تنبه إلى ضرورة فعل شيء ما لإنقاذ هذا الفن من الضعف الذي وصل إليه.
وتفاقمت أزمة المسرح العربي بدخول عصر الفضائيات وهيمنة فن التلفزيون ثم عصر النت ومواقع التواصل الاجتماعي التي ضاعفت حجم المأساة، فغدا المسرح فنا شبه مهجور، لا يتابعه إلا الخاصة. وفي عام 2008، ورغبة من بعض المسرحيين العرب في تحسين حال الحياة المسرحية العربية، وُجِدت الهيئة العربية للمسرح في إمارة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبالتزامن مع ذلك قرر المسرحيون والفنانون العرب المتمثلون في اتحاد الفنانين العرب ومعظم النقابات الفنية العربية ومنظمة الأليكسو والهيئة الدولية للمسرح وممثلين عن المسرح من كل الدول العربية تأسيس احتفالية “يوم المسرح العربي” في نفس يوم إطلاق هذه الهيئة، الموافق للعاشر من يناير في كل عام، تماشيا مع احتفالية يوم المسرح العالمي الدولية التي تكون في السابع والعشرين من مارس وهي احتفالية ترعاها منظمة اليونسكو العالمية.
وفي كل عام تختار الهيئة العربية للمسرح شخصية مسرحية عربية لإعداد كلمة تلقى على كل مسارح الوطن العربي في احتفالية خاصة بمناسبة اليوم العربي للمسرح. وخلال المواسم الأربعة عشر السابقة ألفت تلك الكلمات قامات مسرحية عربية هامة. فكانت البداية مع اللبناني يعقوب الشدراوي ثم الفنانة المصرية سميحة أيوب ومن بعدها عزالدين المدني من تونس ثم يوسف العاني من العراق ثم سعاد عبدالله من الكويت ثم ثريا جبران من المغرب ثم الشيخ سلطان بن محمد القاسمي من الإمارات العربية المتحدة ويوسف عايدابي من السودان وزيناتي قدسية من فلسطين وحاتم السيد من الأردن وفرحان بلبل من سوريا وسيد أحمد أكومي من الجزائر وخليفة العريفي من البحرين وفي العام 2021 إسماعيل عبدالله باسم الهيئة العربية للمسرح، وفي العام الجاري 2022 ألف الكلمة المسرحي رفيق علي أحمد من لبنان.
المسرح بصيص أمل

بعد تجربة مسرحية طويلة على امتداد ما يقارب الأربعين عاما خط الفنان المسرحي رفيق علي أحمد كلمته التي قدمت على مسارح الوطن العربي؛ قدم فيها نظرة بانورامية عن بعض مواجع وأحوال المسرح العربي. ففي مسألة الحاجة إلى المسرح بيّن أن “اليوم وأكثر من أي وقت مضى تبدو الحاجة ماسة إلى المسرح. ففي زمن التواصل ‘اللا إنساني’ الذي فرضته التكنولوجيا الحديثة، يغدو المسرح مكان اللقاء الإنساني بامتياز، سواء من حيث التفاعل بين العاملين فيه، أو بينهم وبين الجمهور، أو بين الجمهور نفسه حين يخرج من الصالة مزدحماً بالأفكار والأسئلة. وهل أجمل من حرارة التواصل المباشر بين البشر الذين جعلهم الله شعوباً وقبائل ليتعارفوا، أي ليتلاقوا ويتحاوروا ويتناقشوا في كل ما يخص حياتهم المشتركة؟”.
وعن دور المثقفين في ترسيخ الحوار والتلاقي بين الشعوب يتابع “في ظلّ تعثر الحوار أو انعدامه بين الأنظمة السياسية والحكومات يبرز دور المفكرين والأدباء والفنانين في تقريب وجهات النظر بين الشعوب والحضارات. وهنا يتجدد الرهان على كون المسرح هو النموذج الأمثل لهذا الحوار انطلاقا من جوهر المسرح نفسه القائم على الحوار بين الممثلين أنفسهم، وبينهم وبين الجمهور، وقبل ذلك بين المؤلف ونصه والمخرج وعرضه. فاللعبة المسرحية برمّتها ما هي إلّا عبارة عن حوار متعدد الأشكال والاتجاهات، ودائماً في سبيل الإنسان وحقه في حياة أفضل”.
يضع رفيق علي أحمد يده على جرح معرفي ثقافي قديم يعاني منه فن المسرح العربي عموما ويتعلق بغيابه عن المناهج الدراسية ومفهوم التربية الفنية؛ يقول “لا يسعني في اليوم العربي للمسرح سوى التساؤل عن أسباب استمرار غياب التربية الفنية والمسرحية عن مناهجنا الدراسية اللهم إلا قلّة منها؟ والتمادي في تهميش المسرح وتجاهله من قبل العديد من وزارات الثقافة في بلداننا العربية، وعدم دعمها للأعمال المسرحية الجادة والمجددة بذريعة شحّ الميزانية ونقص الإمكانيات، فيما نلاحظ كيف تُصرَف الأموال الطائلة على أمور سطحية واستهلاكية تافهة، وكأن الأمم والشعوب تنهض وتتقدّم بلا آدابها وفنونها وفي مقدمها المسرح!”.
مديرية المسارح والموسيقى تسعى من خلال هذا النشاط لرد الجميل إلى كل فنان مسرحي لم يترك المسرح، وكان هاجسه تقديم المزيد من الأعمال
وعبر مسألة الرقابة وما تفرضه على المبدع المسرحي من سطوة فكرية تكبله في عمله كتب “الطامة الكبرى والدائمة هي الرقابة المستمرة على الإبداع المسرحي، وهي رقابة برؤوس متعددة مثل كائن خرافي: رقابة رجال السياسة ورجال الدين ورجال الأمن وسواهم من ‘رجال’ يقفون سداً منيعاً في مواجهة رجل واحد، هو رجل المسرح أينما كان في هذه المدينة أو تلك، على هذه الخشبة أو سواها، ويضعون الحواجز والعثرات في طريقه. وإذا كان مَن يراقب الناس يموت همّاً، فإن الرقابة على الإبداع هي الموت نفسه، وهي ألد أعداء الفعل المسرحي. لأن الإبداع صنو الحرية. لا إبداع بلا حرية، لا مسرح، ولا حياة”.
وفي منعرج يحمل روح الاستسلام من مسرحي قديم لا يملك أملا كبيرا في تحسن واقع المسرح العربي يقول “أسمح لنفسي بأن أستعيد التوصيات التي صدرت منذ أكثر من أربعين عاماً عن أول مهرجان مسرحي شاركت فيه في دمشق، وكانت تشدد على تفعيل العمل المسرحي العربي وتطويره على صعيدي الشكل والمضمون مؤكدة على وجوب البحث عن السبل والأساليب لتمتين العلاقة العضوية بين العمل المسرحي والجمهور. من يومها حتى الآن لا شيء تغير، الأزمة نفسها، النقاشات نفسها، التوصيات نفسها وواقع الحال نفسه”.
ورغم ذلك فإن رفيق علي أحمد ينهي كلمته بجرعة كبيرة من الأمل، تطلب من المسرحيين الحوار مع جيل الشباب ليعود المسرح إليهم، حيث يقول “نريد مصالحة شبابنا عبر مسرح بسيط، لا مُبَسَّط، يجعلنا نرى صورة ناسنا وواقع مجتمعاتنا. وأن يكون هذا المسرح بصيص أمل في ظل ظلام التطرف بشقيه الأصولي والاستهلاكي، وفي مواجهة التعصب الأعمى والكراهية المتعاظمة من الإنسان لأخيه الإنسان، وما ينتج عن هذا الواقع المظلم من خراب جماعي عصيّ على الإصلاح وإعادة البناء. نحن في أمسّ الحاجة إلى مسرح يهدم الحواجز النفسية والجغرافية بين البشر، ويقيم جسور التفاهم المتبادل بين الإخوة. ولن يتسنى للمسرح تحقيق ما يصبو إليه إلّا إذا كان حراً لا يعترف برقابة، ولا تحده حدود، لينتج ويقدِّم ما يُعبِّر عن هويتنا الثقافية والإنسانية التي تشكّل مكوِّناً عضوياً من هوية العالم برمَّته. ننتصرُ للمسرح ولحريته، ننتصر للحياة“.