سوريا: الحل بالتسامح وتجاوز ثقافة الانتقام

الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام لمقاتلين من الجيش السوري رافعين بنادقهم مهللين ومكبرين لا تخدم المصالحة في سوريا بل تزيد من مشاعر الخوف والانتقام.
الثلاثاء 2025/03/11
مشهد لا يخدم المصالحة في سوريا

وصف الرئيس السوري أحمد الشرع تطورات الأحداث التي يشهدها الساحل السوري بـ”التحديات المتوقعة”، حُمّلَ تأويلين: الأول، عدم إدراك لحجم المأساة واستخفاف بدماء الضحايا وخطورة التصعيد الذي يهدد بتوسع رقعة العنف في سوريا. والتّأويل الثاني، أن كلامه نبوءة لما ستشهده البلاد مستقبلا.

وفي الحالتين، يكون وصف الشرع لما يجري من أحداث قد ساهم في زيادة الاضطراب والمخاوف بدلا من تخفيف حدتها. ولم يعد مستبعدا أن تتحول المواجهات المحدودة إلى نزاعات مفتوحة مع أكثر من أقلية في البلاد تمتد لسنوات.

كانت غالبية السوريين تنتظر من الرئيس أحمد الشرع، الذي أظهر طيلة الفترة الماضية حسا عاليا بالمسؤولية وتطبيق العدالة، أن يخاطب مرتكبي الإساءات في سوريا قائلا لهم: سلّموا أسلحتكم و”اذهبوا فأنتم الطلقاء.”

كان السوريون يأملون أن يكون هذا القول الذي جاء على لسان النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عندما دخل مكة فاتحا دون قتال كبير، وجمع أهل مكة الذين كانوا يعادونه وكانوا قد أخرجوه من مكة، وقال لهم “ما تظنون أني فاعل بكم؟”، فردوا “أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ.” فقال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء.”

◄ الإدارة السورية عليها أن تعيد قراءة الوضع في البلاد وتعلن عن المسامحة بدلا من المحاسبة وأن يكون الشرط الوحيد تسليم السلاح وأن تتم دعوة جميع الأطياف لكتابة تاريخ سوريا الجديد

نعلم أن حجم الجرائم التي ارتكبت في عهد النظام البائد وفلوله كبير، ونعلم أنهم تسببوا بمقتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري، لا يزال أكثر من 110 آلاف منهم مفقودين، وأنهم تسببوا بهجرة ونزوح نصف سكان سوريا، التي رهنت للأغراب. ولكن ما نعلمه أكثر أن الطريق لنسيان آلام الماضي لا يكون إلّا بالمسامحة.

المسامحة التي أنقذت جنوب أفريقيا عام 1990 من المجازر، إثر تفكك أبشع نظام فصل عنصري عرفه العالم، النظام الذي استمر 42 عاما وارتكب أبشع الجرائم. خلال الفترة التي عرفت باسم الأبارتايد، قُتل آلاف، وتم اعتقال وتعذيب الآلاف من النشطاء السياسيين والمعارضين للنظام، ومن بينهم أشهر مناضل عرفه التاريخ، نيلسون مانديلا، الذي قضى 27 عاما في السجن.

عندما خرج مانديلا من السجن لم يسعَ إلى الانتقام بل أعلن المسامحة.

إعلان المسامحة في جنوب أفريقيا احتاج إلى شجاعة تفوق بكثير الشجاعة التي يحتاجها القتال، خاصة بعد كل ما تعرض له السكان السود الذين تم تهجيرهم من منازلهم وأراضيهم ونقلهم إلى مناطق مخصصة تُعرف بـ”البانتوستانات”، حيث كانوا يعيشون في ظروف قاسية محرومين من الخدمات الأساسية، وتُطبق عليهم قوانين تمييزية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك التعليم، الصحة، الإسكان، والعمل. كانت الخدمات المخصصة للسود أسوأ بكثير من تلك المخصصة للبيض.

الصور التي تتناقلها وسائل الإعلام، وأنا هنا لا أتحدث عن صور القتلى، بل عن صور عناصر الجيش السوري الحالي رافعين بنادقهم، مهللين ومكبرين لا تخدم المصالحة في سوريا، بل تزيد من مشاعر الخوف والانتقام.

لم يدخل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على أهل مكة شاهرا سيفه، بل دخلها ليقول لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء.”

نظام الأبارتايد كان نظاما قاسيا وغير إنساني، وترك آثارا عميقة على المجتمع الجنوب أفريقي. جهود مانديلا وقادة آخرين كانت حاسمة في إنهاء هذا النظام وتحقيق العدالة والمصالحة في البلاد.

المسؤولون الكبار عن اضطهاد الشعب السوري تسللوا خارج البلاد ومعهم ثروات كبيرة سبقتهم. من تبقوا فارين ومطارَدين داخل سوريا، هم من صغار المسؤولين وإن شاركوا بإصدار أوامر اعتقال وتعذيب وحتى إعدامات. قانون المحاسبة حوّلهم إلى وحوش محاصرة، لن تخسر شيئا إن عادت وتحالفت مع الشيطان مرة أخرى.

الرغبة بالانتقام، وليست الطوائف والأقليات، هي مشكلة سوريا.

لم أكن أتصور يوما أن سوريا يمكن أن تهدد بالتقسيم، ولطالما اعتقدت أن التنوع هو مصدر قوتها وليس ضعفها. عقب سقوط الأسد كتبت تحت عنوان “سوريا.. جوراسيك بارك التنوع العرقي والثقافي والمذهبي” قائلا: سقط النظام، وبدلا من أن يقتحم مقاتلون من هيئة تحرير الشام والجيش السوري الحر منطقة الساحل السوري، كما كان يُروّج، توجهوا إليها حاملين رسالة تسامح ودعوة للعيش معا بسلام.

◄ التنوع يحمي سوريا من التقسيم، ولكن لن يحميها من الاقتتال والتدخل الخارجي. ما يحمي سوريا هو الإعلان عن المسامحة وتجاوز الماضي ونسيان ثقافة الانتقام

وتابعت: لم يحتج الأمر سوى 48 ساعة ليكتشف العالم أن الأذى والظلم اللذين لحقا بالسوريين خلال 54 عاما، وهي الفترة التي حكم فيها آل الأسد سوريا، قد طالا السوريين بمختلف طوائفهم، بل قد تكون الطائفة العلوية أكثر طائفة طالها الأذى، لأنها حُمّلت وزر ما ارتكبته المجموعة الضيقة جدا والمقرّبة من النظام السوري مقابل وهم السلطة.

لم يكن ما كتبته حلم مهاجر عاش بعيدا عن بلده 40 عاما ويحلم بالعودة إليها ليستريح، بل كان رأيا قائما على حكمة سبعين عاما.

رغم ذلك، لست متشائما، وآمل أن يتم إصلاح ما كسر. آمل أن يعيد الشرع ومعه الإدارة الجديدة قراءة الوضع، ويعلن عن المسامحة بدلا من المحاسبة، وأن يكون الشرط الوحيد تسليم السلاح، وأن تتم دعوة جميع الأطياف لكتابة تاريخ سوريا الجديد.

قبل أحداث الساحل السوري الأخيرة المؤلمة، قرأت ما قاله ديفيد شينكر مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق: “إن بلاده قد تواصل دعم قوات سوريا الديمقراطية لتعزيز موقفها في المفاوضات، ولكن سوريا لا تبدو متجهة نحو نظام فيدرالي، بل نحو دولة مركزية موحدة. وفي هذا السياق، سيتعين على قوات سوريا الديمقراطية أن تصبح جزءا من الجيش التابع للحكومة السورية في دمشق، وتعمل تحت قيادتها.”

كلام شينكر المبني على المصالح السياسية لجميع الأطراف في المنطقة، تؤكده حقائق ديموغرافية. فرغم كل التجاوزات التي تمت، والتي لا تنحصر فقط بحكم عائلة الأسد، بل تعود إلى ما قبل ذلك بكثير، سوريا ليست في طريقها إلى التقسيم. لا في الجنوب ولا في الشمال الشرقي ولا في منطقة الساحل.

الجنوب السوري المشكّل من محافظتي درعا والسويداء تقطنه غالبية سنية، يقطن معظمها في محافظة درعا التي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة. ويفوق عدد الدروز الذين يقطنون مدينة جرمانا المحاذية لدمشق عدد الدروز الذين يقطنون محافظة السويداء التي يبلغ عدد سكانها 370 ألف نسمة. وفي كلا المحافظتين تقطن أقلية مسيحية.

الوضع لا يختلف في الشمال الشرقي، مقارنة بالطوائف والقوميات الأخرى من سنة ومسيحيين وشركس وأرمن وعرب وتركمان، الأكراد ليسوا أغلبية، هم جزء من المكون السوري، يصعب حصره في منطقة محددة. ومن أتيحت له الفرصة لزيارة منطقة الساحل السوري، لا بد أن يلاحظ تواجدا مكثفا للأكراد في شمال هذه المنطقة الجبلية، (الحفة، المارونيات، سلمى، المريج، دورين) وهي مناطق ذات كثافة سكانية عالية.

الأكراد متواجدون أيضا في المدن الكبرى، دمشق وحلب وحمص. وفي العاصمة دمشق جبل يطل على المدينة يعرف باسم جبل الأكراد. وأول رئيس لسوريا كردي، هو محمد علي العابد، تولى الرئاسة من عام 1932 حتى عام 1936. وفي عام 1949 تولى كردي آخر الرئاسة هو حسني الزعيم.

أما في منطقة الساحل السوري وسهل الغاب وحمص، فالأمور أكثر تشابكا وتعرضا لسوء الفهم. فإلى جانب الأكراد في القرى التي ذُكرت، هناك قرى تسكنها أقليات تركمانية، كما في برج سلام وصليب التركمان وقسطل معاف.. وغيرها.

◄ المسؤولون الكبار عن اضطهاد الشعب السوري تسللوا خارج البلاد ومعهم ثروات كبيرة سبقتهم. من تبقوا فارين ومطارَدين داخل سوريا، هم من صغار المسؤولين

وفي أقصى الشمال الغربي للحدود الفاصلة بين سوريا وتركيا تقطن جالية من الأرمن في بلدة كسب على سفح قمة جبل الأقرع. وتتداخل مع هذه المناطق قرى وبلدات تقطنها طوائف متنوعة مسيحية وسنية وعلوية وإسماعيلية ومرشدية.

ورغم تشكيلهم للغالبية في ريف الساحل السوري، إلّا أنّ نسبة العلويين هناك لا تتجاوز 40 في المئة من السكان. أما في مدن الساحل، اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة، التي تقطنها غالبية سنية وأقلية مسيحية، فإن نسبة العلويين بحدود 20 في المئة. وهناك أعداد كبيرة من أبناء الطائفة العلوية استقرت في دمشق وولدت هناك وكبرت خلال 50 عاما وأكثر.

وإذا كانت سوريا بلدا للأقليات، فإن دمشق بوتقتها، يعيش فيها المسيحي إلى جانب السني والدرزي والأرمني والكردي والعلوي والشيعي.

الأحداث التي شهدتها منطقة الساحل، وإن كانت مدفوعة بدعم من جهات خارجية، وبدأها ضباط علويون تابعون لنظام الأسد، لا تمثل أبناء الطائفة العلوية الذين يصرون على أنهم جزء من المكون السوري. ولم يصدر عن مفكريهم وعن مثقفيهم وبسطائهم ما يشير إلى رغبة بالانقسام عن سوريا. وهذا ما أكده أيضا الأكراد والدروز والمسيحيون وكافة الأقليات.

التنوع يحمي سوريا من التقسيم، ولكن لن يحميها من الاقتتال والتدخل الخارجي. ما يحمي سوريا هو الإعلان عن المسامحة وتجاوز الماضي ونسيان ثقافة الانتقام.

9