سنبقى نحب حسين نعمة!

لم أستعد حسين نعمة اليوم تحت وطأة خبر فني جديد أو لتفنيد الإشاعات التي تلاحقه وهو يعيش عقده الثمانيني هادئا في مدينته الناصرية بين أولاده وأحفاده ويدع الفرات ينام تحت جلده! بل لأنه أعاد اكتشاف صوته في هذا العمر، وكأنه يقدم اعتذاره المتأخر لملايين بقوا يحبون غناءه رغم كل الخيبات التي كسرت شغاف العلاقة الباهرة مع صوت وصفه الناقد الموسيقي الراحل عادل الهاشمي "بأجمل حنجرة، حيث تسري الحلاوة والعذوبة والشاعرية في كل نبرة من نبراته".
بلى، سنبقى نحب صوت حسين نعمة، وإن لم يُقّدر أبوعلياء قيمة هذا الصوت في مراحل كثيرة من تجربته الغنائية، لأننا نبحث عن ذلك الولع الذي يحيل الأشياء، كل الأشياء إلى حلم حينما نستمع لصوته القديم ولا نقبل منه تبريرا، الصوت الذي أرّخ لمعاناة ووله أجيال بأكملها.
ويبدو تحت وطأة هذا الحب الذي لم يأفل، وجد حسين نعمة ما يعيده إلى حنان وحنين الغناء، فاستعاد لحنا للفنان الراحل محسن فرحان "تائه أنا" في ما جدد التعاون في ثاني أغنية له مع الملحن علي سرحان بنص الشاعر محمد المحاولي "النهار بأوله" وكأنه نوع من التحدي للسنين في دلالة لامعة بأن الأغاني كالفضة لا تصدأ!
قال لي وهو يختصر المسافة بين ذي قار ولندن "ثمة ما يشبه الغموض يكتنفني، تماما مثلما قال شوبنهاور إن الفنان في حاجة إلى قليل من المس! حظّي أن أكون متعبا وأستمتع بهذا التعب. لا أقدر أن أصفه بالعبثية أو الجنون، شيء يشبه التمرد، ربما يعود إلى طفولتي القلقة، أنا مرهف جدا، شفاف، أبكي سريعا، أضحك لا أحقد، عصبي". يتذكر هنا فان كوخ ليقول قطع أذنه من أجل امرأة حسناء! ما الذي يسعى حسين نعمة إلى قطعه؟
حسين نعمة الذي فوجئ صباحا وهو يفتح نافذة الفندق العتيق في منطقة حافظ القاضي وسط شارع الرشيد في بغداد عام 1969، بأصوات الأطفال تردد "نخل السماوة يقول…" بعد أن أداها قبل ليلة واحدة فقط في الإذاعة العراقية آنذاك! ماذا بقي من كل ذلك؟ سأعيد إجابتي السابقة التي كتبتها عن أبي علياء قبل أكثر من ثلاثين عاما وأستبدل الحق الذي منحته لنفسي آنذاك عندما قلت "الخيبة"، بثمة ما يلوح في الأفق في ما يسمى المستقبلية في صوت حسين نعمة، عندما تستمعون قريبا إلى هذا الجديد في "تائه أنا" و"النهار بأوله".
لكنني سأعيد تعريف غناء حسين نعمة مع قديمه الذي أصبح جديدا! فقد استثمر المخرج السينمائي هادي ماهود إحدى أروع أغاني حسين التي لم تحظ بالقدر الذي يجعلها ضمن جواهر قلادته، ومع أنه أدى أغنية "ضيعنا القدر" التي كتبها الشاعر فايق عبدالجليل الذي ضاع في لجة الموت العراقي الكويتي المشترك عام 1990، ولحّنها الموسيقار الراحل محمد جواد أموري، في سبعينات القرن الماضي، إلا أنها لم تصل إلى الأسماع. واليوم يصور الأغنية على ضفاف الفرات وتحت زقورة أور وكأن “ضيعنا القدر” تقول للسنين إياك أن تشيخي، لأن أرواح كل مع عاشوا مع الأغاني بقيت غضة.
"ضيعنا القدر" التي أرسل لي أبوعلياء تصويرها التلفزيوني قبل أن تعرض على الشاشات بعد، هي فرصة رائعة لإعادة الصلة التي وهنت بين الجمهور وحسين نعمة، أغنية بمواصفات شاعر فذ ترك أروع لمساته في أصوات عراقية ولحن يُعبّر عن براعة صانع الجملة الموسيقية المبتكرة، ولطالما شكّل ظاهرة في صوت حسين نعمة.
استثمر المخرج ماهود ذلك البوح الباهر في "ضيعنا القدر تهنا/ فرحنا راح ودعنا/ انتهى كل شيء معانا كان/ بس الحب يجمعنا". وجعل كاميرته ترسم المشهد الذي طال انتظاره في صوت حسين نعمة وهو يعبر الثمانين!