سمسار البيت الأبيض بقبّعة الكاوبوي

إذا كان القصد من سياسات ترامب العودة إلى مبدأ "مونرو" من أجل حفظ مصالح الولايات المتحدة دون اكتراث لالتزاماتها السابقة، يتعين تبعا لذلك السؤال عن مدى وجاهة استمرار دول دون أخرى في التقيد بضوابط العولمة الاقتصادية.
الخميس 2019/11/07
انتخابات 2020 ستكون الحاسمة

كانت أكثر الانتقادات الدولية التي وجهت لإدارة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، تتعلق بزجّه الولايات المتحدة في نزاعات عسكرية وثقافية متعددة الجبهات، كلفت العالم الكثير من الدمار والراديكالية. وكانت حجته في ذلك بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حماية الأمن القومي الأميركي بمحاربة الإرهاب أينما كان وتعقب أسلحة الدمار الشامل وحماية منابع النفط.

اختصت إدارة البيت البيض في تلك الفترة بلقب “الكاوبوي” لتعود بعد ذلك إلى الإيمان بالحلم مع الرئيس باراك أوباما. لكن عهدتي أوباما لم تكونا سوى فسحة. إذ يبدو أن رجل الصفقات دونالد ترامب بصدد صناعة موقع جديد للولايات المتحدة مستخدما القبعة ذاتها لرجل الكاوبوي، لكن في عالم المال والأسواق بدل الجبهات.

وبمثل إدارته للسياسات التجارية العدائية والحمائية وعلاقاته المضطربة مع الحلفاء التقليديين، فإن سياسات الربح والخسارة هي المعيار الأساسي أيضا في قرار الرئيس الأميركي الانسحاب النهائي وبلا رجعة من اتفاق باريس للمناخ، مع أن الولايات المتحدة تتصدر الدول المصدرة لانبعاثات غازات الدفيئة.

في تقدير ترامب فإن كلفة الاتفاق ألقت أعباء مالية كبيرة وغير مبررة على الاقتصاد الأميركي، مع أن العلماء ما انفكوا يؤكدون على تزايد وتيرة التأثيرات التي أحدثتها التقلبات المناخية في كامل أرجاء الأرض، بشكل أكثر تطرفا وحدّة على الاقتصادات والزراعة ومصادر المياه ومنسوب المحيطات.

إن انسحاب واشنطن الفعلي خلال عام، سيفقد اتفاقية باريس جزءا كبيرا من معناها وسبب وجودها. كما سيزيد بلا شك من الضغوط على القوى الاقتصادية الكبرى وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي، ليس فقط في تحمل أعباء وكلفة إضافية لتغير المناخ في العالم، بل أيضا في ما يرتبط بأزمة الهجرة واللجوء المتفاقمة بسبب السياسات المقيدة للحكومات الشعبوية داخل الاتحاد.

وقد يعني هذا الانسحاب الأميركي تهديدا مباشرا بفشل جهود الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في احتواء الأعداد المتزايدة للمهاجرين المناخيين، الذين يمثلون العدد الأكثر من بين نحو 260 مليون مهاجر في العالم، علاوة على أنه سيرسم مستقبلا مظلما للمهاجرين الاقتصاديين وطالبي اللجوء في منطقة الأميركيتين الذين يحلمون بالعمل والعيش داخل الولايات المتحدة.

وينبئ الأمر بالمزيد من التعقيد إذا مضى ترامب قدما في طموحاته لفرقعة أسس العلاقات داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) مع استمرار ضغوطه على الدول الأعضاء مثل ألمانيا، لزيادة حصتها من النفقات الدفاعية للحلف. والصورة الأكثر تعبيرا عن ازدواجية ترامب مطالبته بمراجعة اتفاق التبادل الحر (نافتا) مع مكسيكو وأوتاوا بموازاة خططه في الاستمرار ببناء الجدار العازل مع المكسيك لمنع تدفق المهاجرين.

يمكن بلا شك، اعتبار مراجعة الاتفاقيات الدولية وفرض اشتراطات مالية جديدة على الحلفاء في مناطق النزاعات، من القرارات السيادية بالنسبة للولايات المتحدة، وهي ترتبط بالمصلحة العليا لأقوى اقتصاد في العالم، غير أن هذا التحول يقتضي أيضا إعادة تعريف النظام العالمي القائم على العولمة والترابط الاقتصادي وتشابك المصالح.

وإذا كان القصد من سياسات ترامب وصفقاته هو العودة إلى مبدأ “مونرو” للقرن التاسع عشر من أجل حفظ مصالح الولايات المتحدة في المقام الأول والنأي بها عن النزاعات الخارجية دون اكتراث لالتزاماتها السابقة، فإنه يتعين تبعا لذلك السؤال عن مدى وجاهة استمرار دول دون أخرى في التقيد بضوابط العولمة الاقتصادية بشأن حرية تنقل الأفراد ورؤوس الأموال وانسياب السلع ووحدة المصير عند الأزمات.

وقد يكون ترامب الساعي لولاية ثانية، نجح من وراء سياسته ومقايضاته، في جلب دورة كأس العالم لنسخة 2026 إلى الولايات المتحدة والكثير من الأموال إلى الخزانة الأميركية، بفضل أعمال الابتزاز العلنية لحلفائه والتملص من الالتزامات الدولية في حماية كوكب الأرض، لكنه في المقابل، وبشهادة معارضيه في الكونغرس، تسبب في تلطيخ سمعة “القيم الأميركية” التي روج لها أسلافه بدءا من جورج واشنطن، رغم أن تلك المسؤولية لا يتحملها الرئيس وحده بقدر ما تلقى على عاتق الناخبين واتجاهات الرأي العام في الولايات المتحدة.

بالنهاية فإن انتخابات 2020 هي التي ستثبت ما إذا كان ترامب يجدف فعلا ضد التيار أم أنه تعبير عن قيم أميركية جديدة.

9