سماء بوش وسماء العراقيين

مات بوش الأب عن 94 عاماً. وتأتي وفاته بعد مرور أشهر على وفاة زوجته باربرا، التي قال عنها بعد جنازتها “لدينا يقين أنها في السماء وأن الحياة ستستمر، وهذا ما تريده هي. ولهذا لا تشعروا بالقلق إزاء عائلة بوش”!
يبدو أن علاقة بوش الأب بالسماء وثيقة جداً، فها هو قد صعد أيضاً إلى السماء حيث سيلتقي حتماً زوجته.. لتستمر حياتهما كما تنبأ هو وأرادت هي.. ولهذا بإمكاننا الآن أن نكف عن القلق.
في شتاء كئيب مطلع العام 1991، ظهرت نكتة غريبة في الشارع العراقي تقول “أن الحرب عندما وقعت ونفد بوش الأب تهديده، عمت الفوضى وخرج الناس إلى الشوارع يدفعهم الخوف والفضول والحيرة مما ستجره عليهم من ويلات، فاستوقفهم رجل ساذج وكان الوحيد الذي تبدو عليه رباطة الجأش واللامبالاة من تزاحم الناس وتدافعهم، فخاطبهم مستغرباً سلوكهم قائلاً “لا تتدافعوا… لا تخافوا، ليش الخوف (همة كلهم 15 واحد) أي 15 شخصا وتنتهي الحرب”!
النكتة السخيفة التي خرجت من الشوارع الخلفية للحرب الشرسة، كانت مبنية على تحذيرات وردت في نشرات الأخبار التي عصفت بسكينة العراقيين قبل الحرب بأيام طويلة. كان المجتمع الدولي بقيادة جورج بوش الأب، قد هدد بمهاجمة العراق إذا لم ينسحب صدام حسين من الكويت.
وكان (السيد الرئيس) في وقتها قرر في خلوة سماوية أخرى، بعد انتهاء الحرب المدمرة مع إيران، أن يهدي مواطنيه العراقيين موتاً جديداً مبتكراً واستثنائياً؛ موتاً كان يتم نقله بالصوت والصورة والحسرة إلى منازل سكان كوكب الأرض، كطبق تحلية بعد وجبة العشاء. كانت المهلة التي قدمها بوش هي حدود ليلة 15 يناير من العام 1991، لهذا كان هذا الرقم لعنة طاردت قلوب الأمهات أياماً طويلة وما زالت تخيم مثل غيمة شرّ فوق قبورهم.
وصارت عبارة (15 واحد)؛ تعني 15 من شهر الواحد باللهجة العراقية، من أكثر العبارات جاذبية وتداولاً في الشارع العراقي في حينها. طعمها الناس بنكهة لاذعة وخرجت من عباءتها الكثير من النكات المغمسة بسخرية مرّة.. لكنها لم تستطع أن تخبئ صوت مطارق الخوف التي كانت تنزل على الأرواح.
لم ينفذ بوش الأب تهديده في الموعد المحدد. كان بوش بحسب خبر ورد عن البيت الأب، يقضي ليلته وهو يتمشى في حديقة منزله وينظر للسماء، يفكر ويتأمل وهو يعلم بأن كيانه الشخصي هذا، أفكاره، تقديراته، عظمه، شحمه، جلده وضعفه الإنساني هو من سيقرر مصير الآلاف بل الملايين من البشر القابعين في ظلام الانتظار وسكون الفجيعة.
كان بوش يتأمل السماء… وكنا نقبع في عتمة أفكارنا نراقب النجوم الغائبة ونتساءل؛ من أي جهة من السماء سيأتينا الموت.. يا ترى؟
تخلى بوش الأب عن يوم (15 واحد) لغاية في نفس الموت… وكانت مناورته السخيفة زرعت بعض شموع الأمل في كنائس أرواحنا.. لكن الشموع سرعان ما انطفأت بعد أيام قليلة حين انفجرت الحرب في وجوه الناس، أما السماء فتحولت إلى مساحة حرّة تتنقل فيها الطائرات الذكية بخفة وتعقد فيها حفلات شواء مجنونة.
الرحمة لروح الجندي الأول الذي غادرنا ولم تستطع السماء أن تمنحه بركاتها… الرحمة لقلوب الأمهات التي ذابت في زوايا البيوت المعتمة… الرحمة على أحلام الشباب التي ضاعت… وذاكرتنا التي شاخت.