سلوكيات فرنسا غير الودية تعمق الفجوة بين الرباط وباريس

لا توجد مؤشرات على قرب احتواء الأزمة الصامتة بين الرباط وباريس، في ظل مواقف فرنسية لا تخلو من استفزاز للمغرب، وسط شكوك متزايدة حيال إمكانية رؤية الرئيس إيمانويل ماكرون قريبا في المملكة.
الرباط - لا تتفق التصريحات التي تقدمها باريس في كل مرة والتي تؤكد من خلالها عدم وجود أي أزمة مع الرباط، مع الوقائع على الأرض، على غرار نشر السفارة الفرنسية بالرباط، على حساباتها الرسمية في مواقع التواصل الاجتماعي صورة للجناح المغربي المشارك في الصالون الدولي للفلاحة بالعاصمة باريس، والذي يظهر خارطة المغرب دون صحرائه.
وتم نشر الصورة بعد أخذها من زاوية حادة، رغم التحركات المكثفة التي يقوم بها السفير الفرنسي بالمغرب، ولقائه بالعديد من الوزراء والمسؤولين، وهو ما يكشف التناقض بين السلوكيات والتصريحات الرسمية سواء من طرف الرئيس إيمانويل ماكرون قبل أيام خلال جولته الأفريقية، أو من قبل وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا.
وكررت كاثرين كولونا، خلال جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، مساء الثلاثاء، نفس التصريحات بأنها ملتزمة بـ”ممارسة التهدئة”، بدليل أنها سافرت بنفسها إلى المغرب في ديسمبر الماضي في زيارة أتاحت استئناف “علاقات قنصلية طبيعية”.
وتحاشت الوزيرة في كلمتها الإشارة إلى مآلات الزيارة التي أعلن ماكرون سابقا عن اعتزامه على إجرائها خلال الربع الأول من العام الجاري إلى المغرب، وتشي التطورات الدبلوماسية بين البلدين بأن هذه الزيارة ربما لم تعد مدرجة على الأقل في الأسابيع المقبلة.
هذه المعطيات، وما يوازيها من سلوكيات برزت في الإعلام الفرنسي على غرار التقرير الذي نشرته “فرانس 24″، والذي تبنى الأطروحة الانفصالية حول الصحراء المغربية، تزيد من حجم الشكوك في طبيعة العلاقات السائدة حاليا بين الرباط وباريس.
وأشار رشيد لزرق، رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، إلى أن باريس بهذه الأساليب “غير الودية” لا تزال تقاوم المطلب المغربي بضرورة خروجها من المنطقة الرمادية والوضوح السياسي، مع المملكة، وتصر على اللعب على تناقضات المحيط الجيوسياسي وممارسة كل الضغوطات لتختبر إصرار المغرب على موقفه المبدئي.
وأعطى تقرير لبرنامج “في 5 دقائق” على قناة “فرانس 24” الناطقة بالإسبانية، مجالا دعائيا للأطروحة الانفصالية التي تتبناها جبهة بوليساريو، بعدما أوردت القناة في نسختها المخصصة لجمهور أميركا اللاتينية، أن هذا الصراع يسلط الضوء على ما تصفه بـ”استغلال موارد المنطقة من قبل المغرب”، وأن “بوليساريو تدين استغلال المغرب لهذه الثروات عن طريق شركات أجنبية من أجل تمويل ما تصفه بـ”احتلاله للصحراء”، بحسب زعم القناة الفرنسية.
وذكر تقرير القناة الفرنسية المثير للجدل أن “إسبانيا أيدت خطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية”، مقابل “تكريس سيطرة الرباط واحتجاز المهاجرين الذين يسعون إلى الوصول إلى إسبانيا عبر مدينتي سبتة ومليلية”، وتورد القناة أيضا في روايتها المتحيزة أن “المغرب سمح للآلاف من المهاجرين بالدخول في غضون أيام قليلة، ردا على استقبال مدريد لرئيس بوليساريو إبراهيم غالي، بغرض العلاج”.
وأكد المحلل السياسي نوفل بوعمري أن تقرير “فرانس 24” الموجهة للإسبان ودول أميركا اللاتينية والجنوبية، مليء بالمغالطات حول القضية الوطنية، ولا يخلو من محاولة للتشويش على التقارب المغربي – الإسباني والتأثير على الرأي العام الناطق باللغة الإسبانية.
وأضاف بوعمري في تصريحات لـ”العرب”، أن “ماكرون سبق له أن تدخل ومنع فرحات مهني (زعيم جبهة الماك) لكي لا يشارك في برنامج تلفزي في الإعلام الفرنسي، حتى لا يغضب الجزائر، فماذا عن هذا التقرير المتحيز”.
وشدد محمد سالم عبدالفتاح، رئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان بالعيون، لـ”العرب”، على أن البرنامج روج للدعاية الانفصالية في الصحراء، في إهمال فاضح لأبسط قواعد الحياد الصحافي، وهو بمثابة الدعاية السياسية التحريضية التي يعكف عليها أعداء المغرب وخصوم وحدته الترابية، معززة بأحكام جاهزة ضد المغرب، في تغييب تام لموقف الرباط الرسمي والطرح الوحدوي.
وحاولت الوزيرة الفرنسية خلال مداخلتها في لجنة الشؤون الخارجية التقليل من شأن تسريبات تتحدث عن الأزمة المكتومة بين الرباط وباريس، وقالت كولونا “إذا قرأنا تصريحات لا تروق لنا في الصحافة، فهي من مصادر مجهولة وبالتالي لا تستدعي تعليقا محدّدا”.
وكانت صحيفة “جون أفريك” نقلت الأسبوع الماضي عن مسؤول مغربي قوله إن العلاقات بين البلدين “ليست ودية ولا جيدة”، سواء بين الحكومتين أو بين القصر الملكي والإليزيه، فيما بدا ردا على تصريحات الرئيس الفرنسي خلال المؤتمر الصحافي الذي أعقب خطابه المتعلق بعلاقات فرنسا وأفريقيا، في السابع والعشرين من فبراير في قصر الإليزيه، والتي أكد فيها أن العلاقات مع العاهل المغربي الملك محمد السادس كانت “ودية، وستبقى كذلك”.
ويرى مراقبون أن قصر الإليزيه يحاول من خلال الاستفزازات المتكررة للمغرب استرضاء الجزائر بأي ثمن، لاسيما بعد التوتر الذي استجد على العلاقات مؤخرا بينهما في علاقة بعملية إجلاء ناشطة سياسية من تونس قبيل ترحيلها إلى الجزائر.
وقالت كولونا “بمعزل عن الحالات التي قد تكون حالات سوء فهم من جانبكم (أعضاء اللجنة) للعلاقة مع الجزائر، يتعيّن علينا جميعا أن نعمل، كلّ من موقعه، من أجل أن تكون هذه العلاقة، وهي علاقة طويلة الأمد، مفيدة للجانبين الفرنسي والجزائري”.
ويعتبر المراقبون أن الموقف الفرنسي يعكس هشاشة كبيرة، حيث إن باريس ورغم تأكيدها مرارا رغبتها في تبني سياسة متوازنة في العلاقة مع الجزائر والرباط، لكنها تبدو بالواضح عاجزة عن ذلك.
ورغم أن وزيرة الخارجية أكدت خلال جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية، انتهاء العمل بقيود التأشيرات التي فرضتها فرنسا وأضرّت بالعلاقات بين البلدين، إلا أن التقييد للتأشيرات لا يزال مستمرا إلى جانب الحملات الإعلامية الاستفزازية ضد المغرب وتصويت البرلمان الأوروبي على قرار حول الوضعية الحقوقية بالمغرب، بدعم مجموعة التجديد التي تهيمن عليها الأغلبية الرئاسية الفرنسية.
ويعتقد المراقبون أن في ضوء الوضع الراهن، من غير المنتظر رؤية ماكرون قريبا في الرباط.
وأكدت مصادر دبلوماسية لـ”العرب” أن المغرب لا يريد أن تكون الزيارة فارغة من أي محتوى سياسي ودبلوماسي يوضح من خلالها الرئيس الفرنسي موقفه من عدد من الملفات التي تسببت في الأزمة القائمة حاليا، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية.
وأضافت ذات المصادر أن على المسؤولين الفرنسيين إدراك تصريحات الملك محمد السادس بأن الصحراء المغربية هي النضارة التي ينظر من خلالها إلى العلاقة مع العالم، وأن أي موقف خلاف ذلك لم يعد مقبولا من قبل الرباط.
ويعتقد رشيد لزرق أن التناقضات في مواقف الفرنسيين تعبر عن تخبط داخل مؤسسات وأجهزة صنع القرار الفرنسي، خصوصا بعدما عرفت خارطة القوى الوازنة والمؤثّرة في صنع القرار الدولي وضوحا في موقفها تجاه قضية الصحراء المغربية، واعتراف الولايات المتحدة وإسبانيا بالسيادة المغربية على الأقاليم الجنوبية.
وأضاف لزرق، في تصريحات لـ”العرب”، أن تراجع الثقل الفرنسي في أفريقيا والمغرب كان بعد اختيار المملكة تنويع شركائها على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، وهو أمر لا محالة يفرض على فرنسا الوضوح، بدل خوضها حرب استنزاف دبلوماسية وإعلامية ضد المغرب، تنذر بتفاقم خسائرها.