سقوط حكومة الجملي.. عودة النهضة إلى الأرض

عدم المصادقة على حكومة الجملي لم يخرج حركة النهضة من الحسابات السياسية القادمة، بل هو حدث سيفرض عليها التواضع.
الثلاثاء 2020/01/14
خسارة مدوية

في جلسة نواب الشعب التي انعقدت يوم الجمعة الماضي للمصادقة على الحكومة التي اقترحها الحبيب الجملي، كان السؤال المهيمن على عمق الجدل هو؛ هل كانت الائتلافات الحزبية والسياسية التونسية تريد حكومة تتصدى لمشاكل البلاد، أم كانت تريد فقط حكومة تمرّ؟

سؤال بمثابة الخلفية السياسية التي طبعت الجدل الذي سبق الجلسة ورافقها وأعقب نتائجها.

دخلت حركة النهضة جلسة نواب الشعب مثقلة بما ترتّب عن مسار طويل من التفاوض والمشاورات. خاضت النهضة، باعتبارها صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان، مشاورات تشكيل الحكومة بعقلية سياسية مشتقّة أوّلا من أرضيتها الأيديولوجية، ومستمدة ثانيا من “خوفها” ممّا تُروّج أنه استئصال قادم. على ذلك كانت تفاوض الخصوم السياسيين لإقناعهم بمشاركتها الحكم، لكنها في عمق التفكير كانت تريد شركاء تحكم بهم لا تحكم معهم. وكانت تفاعلات كل الأطياف السياسية محكومة بالتوجس من هذا التفكير النفعي النهضوي. تعطلت المشاورات وتفتّقت قريحة الجملي على حكومة “كفاءات مستقلة”، لكن مبتكرَ الجملي كان انحناء تكتيكيا يبتغي مرور عاصفة ذات نتائج استراتيجية.

كان سقوط حكومة الحبيب الجملي يمثل، في عمقه، سقوط مفصل من مفاصل المشروع النهضوي في تونس، وتداعي قسم من مشاريعها

كان يسود الساحة السياسية التونسية طيلة الأيام السابقة لجلسة المصادقة على الحكومة إجماع على التشكيك في “استقلالية” الجملي وحكومته، وفقرها من البرامج وافتقادها للكفاءات. المفارقة التي سبقت يوم التصويت، أن النهضة نفسها، التي جاءت بالجملي وباركت حكومته وعمّدتها بالوعود وسوّقت أنها بديل للفراغ، دعت مجلس شوراها لتداول أمر البتّ في التصويت للحكومة من عدمه. والمثير أن ما رشح من الاجتماع المغلق يفيد بوجود أصوات نهضوية كثيرة كانت تتحفظ على منجز الجملي الذي يتهيّأ لعرضه على نواب الشعب.

وعلى ذلك كان سقوط حكومة الجملي بفارق أصوات كبير منتظرا ومتوقّعا، على الرغم من كل المناورات التي جاهدت النهضة لتنفيذها في أروقة المجلس، وهنا اكتسب السؤال المنطلق وجاهة إعادة طرحه: هل كان المطلوب حكومة تتصدى للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية، أم حكومة تمرّ وبعدها “لكل حدث حديث”، بما يعني فتح الباب أمام ارتجال جديد يدوم سنوات أو أشهر إن توفرت العوامل الموضوعية لتغيير الحكومة لتراوح الأزمة التونسية موضعها؟

جاهدت النهضة لإقناع أنصارها وخصومها، بأهمية مرور الحكومة ونيلها الثقة، ولم يكن الإصرار النهضوي على حكومة الجملي نابعا من قناعتها بضرورة إيجاد حكومة تذهب رأسا إلى ترتيب أولويّاتها وتتصدى لجبل المشاكل التونسية المتراكم، بل لأنها كانت ترى في الحكومة أداة تنفيذية لتكريس موقعها السياسي الذي أصيب بالتصدّع جراء تضافر عوامل نتائج الانتخابات الأخيرة وانقسامها الداخلي الذي بدأ يخرج من معقلها الموصد على المتطفّلين، فضلا عن تأثير العوامل الإقليمية والدولية التي بدأت تضغط على صدر النهضة وتعيق تنفّسها الطبيعي.

انطلاقا من هذه الحيثيات المحيطة بالحدث، يمكن القول إن سقوط الحكومة وعدم نيلها الأغلبية، لم يكن سقوطا لمشروع الجملي، بل كان عرقلة لمشاريع النهضة التي كان تفكيرها السياسي، التكتيكي والاستراتيجي، لا يرى غير البقاء في الحكم، حتى وإن ضلّلت قواعدها وخصومها بإعادة إنتاج الخطوات القديمة وانتظار نتائج مختلفة.

خاضت النهضة، باعتبارها صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان، مشاورات تشكيل الحكومة بعقلية سياسية مشتقّة أوّلا من أرضيتها الأيديولوجية، ومستمدة ثانيا من “خوفها” ممّا تُروّج أنه استئصال قادم

ومهما كانت نتائج المشاورات التي دشنها الرئيس قيس سعيّد، بغاية اختيار رئيس جديد للحكومة، فإن حدث مجلس نواب الشعب عرّى أسلوب النهضة في التعاطي السياسي مع واقع البلاد. أسلوب يقوم على وضع الشركاء السياسيين بين قوسين. قوس الإجبار على المشاركة في الحكم بشروطها وبالتالي الاشتراك في تحمل التبعات والنتائج، أو التأثيم والتخوين والاتهام بخيانة الأمانة الوطنية واللحظة السياسية الحرجة. حدث الجمعة الماضي دلّ أيضا على أنه بالإمكان الانتصار على النهضة بالأساليب السياسية الديمقراطية، إن توفرت عوامل الإرادة والاتفاق على الحد الأدنى الوطني المشترك.

عدم المصادقة على حكومة الجملي لم يخرج حركة النهضة من الحسابات السياسية القادمة، بل هو حدث سيفرض عليها التواضع بما يعني أن الاتّكاء على منطلقات الدين والمقدس والطهرية والمظلومية والشرعيات النضالية، لم يعد مفيدا ولم يعد مجديا للتوصل إلى نتائج سياسية تنفع الناس وتمكث في الأرض.

في اليوم التالي لجلسة الجمعة، ذهب رئيس حركة النهضة مسرعا إلى اسطنبول للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ولئن لا نعرف تفاصيل اللقاء أو مفاعيله، إلا أن الربط بين الحدثين جائز في ظل ما يحدث في تونس وفي الجوار وفي الإقليم، وفي ظل الصلات الأيديولوجية والسياسية الوثيقة بين الطرفين الإسلاميين.

كان سقوط حكومة الحبيب الجملي يمثل، في عمقه، سقوط مفصل من مفاصل المشروع النهضوي في تونس، وتداعي قسم من مشاريعها، ولعل إحالة الأمر إلى حكومة الرئيس وما قد تنتجه من فرضيات قد تصل إلى فرضية حل البرلمان، ستؤكد عودة النهضة إلى حجمها الحقيقي بعيدا عن الاستنادات الدينية الموازية التي طالما غازلت بها جماهير الناخبين.

8