سفارة أخرى للسعودية في لبنان

للسعودية سفراء كثيرون في لبنان، كل الذين يعانون من المظالم وكل الذين يرون إلى أين قاد حزب الله هذا البلد هم سفراء، ويجدر أن تتوفر لهم القدرة على أن يُبقوا صوتهم مسموعا.
الاثنين 2021/11/08
طبقة سياسية خاضعة لهيمنة حزب الله

الآخذون بلبنان إلى جهنم، يمكنهم أن يهنَأوا بها وبه. والذين يستمرئون معاداة السعودية لممالأة إيران وحزب الله، يمكنهم أن يقولوا ما شاء لهم الهوى عن “البدو”. لا توجد مشكلة. الحقيقة النهائية هي أن السعودية “صحت على زمانها” أخيرا، ولم تعد تقبل أن يُنظر إليها كمصدر للمال، لا مقابل الكلام المعسول، ولا مقابل شراء المواقف. والدعم الذي كان يبدو سخيا ومجانيا، لم يعد مناسبا. هل تعرف لماذا؟ لأن “البدو” لديهم ما يعملونه لأنفسهم بأنفسهم. لديهم مجتمعات يريدون تنميتها وتطويرها. ولديهم تحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية يريدون التغلب عليها. كما أن لديهم ما يتعين أن يحافظوا عليه، ومكانة تستحق أن تُراعى، ليس كقوة “دعم”، وإنما كقوة بناء وإعادة إعمار. وهم يكتشفون للمال دورا آخر. ببساطة، صاروا أكثر تحضرا وانتسابا للعصر ممن ينظرون إلى خرابة الولي الفقيه على أنها هي الأمل المرتجى.

الذين اختاروا أن يخوضوا معارك إيران في المنطقة، والذين اختاروا أن يتوقفوا عند فكرة “إنه لا سبيل لتجاوز حزب الله” (وهي فكرة يتبناها نجيب ميقاتي أيضا)، يمكنهم أن يهنَأوا بعدم تجاوزه.

السعودية، ودول الخليج الأخرى، قررت التجاوز. نقطة رأس السطر. والمقاطعة السعودية للبنان، التي بدت “قساوة غير مفهومة” من وجهة نظر وزير الخارجية عبدالله بوحبيب، ليست كافية في الواقع، على الأقل حتى يقول بوحبيب ما الذي يقف وراء قساوته هو، أو يعترف بأن قائده الحقيقي ليس ضميره، وإنما حسن نصرالله.

لبنان يمكن أن يُقاطع دبلوماسيا وتجاريا، ولكنه لا يُقاطع أهليا. كل طوائف لبنان غير الخاضعة لحزب الله، تبحث عن سبيل لكي تتحرر من الهيمنة

ولكن، هذا كله في كفة، وحقيقة أن السعودية لا يجب أن تخرج من المعركة في كفة أخرى.

لبنان لا يُترك. ليس من أجل لبنانيين آخرين يرزحون تحت وطأة المظالم فحسب، بل من أجل الدور الإقليمي للسعودية أيضا.

والإعلام هو أحد أوجه المعركة. وطالما أنها ليست معركة دبابات ومدافع، فإن الإعلام هو سيدها.

تستطيع السعودية أن تسحب دعمها لبعض المشاريع الإعلامية التي ترى أنها غير مؤثرة. إلا أنها لا تستطيع أن تدير ظهرها لتكتفي بفضيلة الصمت. وليس من الواقعي، أن يبقى “تيار المستقبل” يترنح في الإعلام كما يترنح في السياسة، ومثله التيارات المسيحية المناهضة لهيمنة إيران.

لنتحدث طائفيا. أي باللغة التي يقوم عليها لبنان. لا بأس بذلك، طالما أن هذا هو الواقع. سنة لبنان ومسيحيوه ودروزه هم عصب الدولة الحقيقية في لبنان، وهم قوة التغيير أيضا. حزب الله وحركة أمل يمكن تجاوزهما بهذه القوة. وعندما انحسر تأثير السنة والمسيحيين والدروز، أصبح حزب الله “قوة لا يمكن تجاوزها”، بحسب المفهوم الذي يكاد يتحول إلى “قاعدة دستورية” بالنسبة إلى طبقة السياسة السائدة اليوم، وهي بالإجمال، طبقة خاضعين لهيمنة حزب الله.

مقتل حزب الله الحقيقي هو طائفيته بالذات. ويحسن دفعه بها قدما. وبدلا من المزاعم الوطنية التي تتيح له التمدد في بيئة السياسة اللبنانية ليقيم تحالفات وجسورا عابرة للطوائف، فإن السنة والمسيحيين والدروز، يمكن أن يعودوا إلى نصب الحواجز الوطنية، لكي تضع حزب الله عند حدوده الطائفية.

لبنان، بمسيحييه وسنته ودروزه، يستطيع أن يضع حدا لهيمنة حزب الله، عندما يستعيد عصب البناء الأول وهو قدرته على إعادة تأصيل المفاهيم الوطنية لصالح دولة لا يعلو فوق مشروعها أي مشروع.

المشروع الوطني الذي قاده رفيق الحريري، انتهى إلى هزيمة منكرة. ليس لأنه مشروع خاطئ، بل لأنه أتاح لعتاة المشروع الطائفي الشيعي أن يتمددوا إلى أرض الآخرين بزعم أنهم “وطنيون”، من قبل أن يتم نزع سلاحهم الطائفي لحساب سيادة الدولة.

المشروع الطائفي الإيراني، يمكن مواجهته بتجديد عقد التحالف الوطني بين السنة والمسيحيين والدروز. هذا المشروع هو العصب الذي قام عليه لبنان المستقل أصلا. ومن شاء أن ينتسب له، يتعين عليه أن ينزع سلاحه لحساب سلطة الدولة أولا. هذا هو الشرط الذي لم يقدر رفيق الحريري، وسط غبار الخراب، أن يفرضه على حزب الله وحركة أمل.

في لحظة ما من التاريخ بدا عقد التحالف بين السنة والمسيحيين والدروز وكأنه مشروع غلبة أهملت شيعة لبنان. فصاروا “وطنيين” بدوافع الحاجة إلى الانتماء إلى بلد لا يواجهون فيه التهميش. ولكن المنقلب الآخر، هو أن حزب الله ارتد على هذه الوطنية ليقلبها إلى مشروع طائفي متطرف، موال لإيران، ولا يأبه للبنان كله. ولكنه ظل يستخدم “الوطنية” كغطاء، يعرف الجميع أنه مهلهل وكاذب ومنحط.

مشروع وطني يقوم على العصب الأصلي، من دون أن يغلق الأبواب على أحد، هو ما يتعين أن ينهض الآن. وهو ما يتعين أن يكسب المساندة.

والإعلام هو أرض المعركة الأولى، التي يحسن السيطرة عليها، لكي لا يبقى إعلام إيران هو الذي يفرض مفاهيمه.

مقاطعة الطبقة السائدة، لا يكفي أن يكون مجرد رد على إساءات صارت تمارسها هذه الطبقة “عفو الخاطر” وكأنها تحصيل حاصل. بل ويمكن القول إن السفارات الخليجية لن تعود إلا بعدما يتحرر لبنان من هيمنة حزب الله والاحتلال الإيراني.

ولكن السؤال البديهي التالي هو: كيف يتحرر لبنان؟

يوجد للسعودية سفراء كثيرون في لبنان. كل الذين يعانون من المظالم، وكل الذين يرون إلى أين قاد حزب الله هذا البلد، هم سفراء ويجدر أن تتوفر لهم القدرة على أن يُبقوا صوتهم مسموعا.

العشرات من الكفاءات الإعلامية اللبنانية تنتظر أن تتوفر لها الفرصة لخوض المعركة. والعديد من المراكز القائمة الآن يمكنها أن تستنهض إمكانياتها التي تواجه الشح.

الذين اختاروا أن يخوضوا معارك إيران في المنطقة، والذين اختاروا أن يتوقفوا عند فكرة “إنه لا سبيل لتجاوز حزب الله” (وهي فكرة يتبناها نجيب ميقاتي أيضا)، يمكنهم أن يهنَأوا بعدم تجاوزه

لبنان يمكن أن يُقاطع دبلوماسيا وتجاريا، ولكنه لا يُقاطع أهليا. كل طوائف لبنان غير الخاضعة لحزب الله، تبحث عن سبيل لكي تتحرر من الهيمنة، بالضبط مثلما تبحث السعودية ودول الخليج الأخرى عن سبيل لاستعادة مكانتها المسلوبة وصوتها المقموع.

والمدخل الأول لذلك هو لملمة شتات الكفاءات الإعلامية حول مشروع وطني يرتكز على عصبه الأول، من دون أن يغلق الباب على أحد.

والأمر لا يتعلق بانتخابات مقبلة لا يمكن خوضها من دون إعلام يفتح أبواب الأمل بلبنان حر، ولكنه يتعلق بمستقبل شعب لا يستحق أن يُؤخذ بإساءات مأجورين، أو يُترك بلا صوت مسموع.

عزل حزب الله أمر ممكن. وهو ليس جزءا من النسيج اللبناني. هذه كذبة كبيرة. إنه جزء من النسيج الإيراني.

يمكن لشيعة لبنان الذين يوالون هذا الحزب على حساب بلدهم، أن يهْنأوا بجهنم التي اختاروها لأنفسهم. ولكن يجب منعهم من فرضها على الآخرين.

كيف؟ بسفارة مرئية ومسموعة ومقروءة تجرؤ على مواجهة المشروع الإيراني بمشروع وطني بديل.

8