سرديات ملأى بالأوهام والعظمة والأمجاد التليدة تسيء للعرب

انتشرت في العقود الأخيرة سرديات الأقليات في العراق تحت مسميات عديدة، بينما تلقفتها مراكز البحوث وسوقتها على أنها حقائق تاريخية، بينما هي مليئة بتحريف للتاريخ وتزييف كبير يستهدف بشكل أساسي العرب، ويقدمهم بصور مشوهة كليا، وهذا مناف كليا لما تقوله الآثار القديمة عن العرب ما قبل الميلاد وظهور الإسلام.
لا يستطيع الألماني أولا ومن ثمة الأوروبي الاعتراض على الكيان الصهيوني، كذلك لا يستطيع العربي اليوم الاعتراض على مشاريع شوفينية عنصرية بالذات في العراق وسوريا، ناهيك عن التطرف المذهبي الذي أصبح وبالا على المنطقة بأسرها. لكن الفرق أن الجميع بمن فيهم الطائفيون يعلنون رفضهم للتطرف الطائفي، وتقام الفعاليات والبيانات والفتاوى لتقويضه، وإن كانت كلها لم تؤد إلى نتيجة إيجابية.
التطرف القومي لغير العرب أصبح في الكثير من الأحيان مقبولا ويكاد يكون مسكوتا عنه باستمرار على الدوام، وراح مؤرخون وباحثون ومشتغلون بالثقافة عامة يرددون هذه السرديات، حتى بتنا نقرأ كتبا أنيقة فخمة الطباعة تصدر عن مؤسسات تدعي أنها مراكز بحوث، والمقيمون عليها عراقيون عرب، تعيد إنتاج مزاعم متطرفي القوميات في مسائل مصيرية هي وقود لتدمير العراق لأن إلغاء عرب العراق وعروبته هو الأخطر، لا يضاهيه سوى تمزيق هذا الإقليم المتفق على حدوده عن معظم المؤرخين والبلدانيين عربا وغير عرب.
الاستدلال على الحقيقة
تتميز منطقة الهلال الخصيب الكبرى (العراق وبلاد الشام والأرض العربية في إيران والعربية السريانية في تركيا) بتنوع عرقي لغوي ديني ثقافي واضح، نتيجة لموقعها المميز جغرافيا وسياسيا وأنها حلقة التواصل العالمي. من هنا فليس مستغربا أنها أول أرض اخترعت الكتابة والقوانين والشعر والأدب والأبجدية، وصاحبة أغزر وأعرق ميراث كتابي في العالم، وهي مهد العقائد، اليهودية والمسيحية والصابئية المندائية والمانوية والإسلام واليزيدية والبهائية.

◄ منطقة الهلال الخطيب الكبرى أول أرض اخترعت الكتابة والقوانين والشعر والأدب والأبجدية، وصاحبة أغزر وأعرق ميراث كتابي في العالم
يسمح النظر إلى هذه المنطقة بالإيمان بتنوعها ورفض وجود أرض عرقية، أي إثبات تسمية تلحقها بقومية أو إثنية، لاسيما المناطق التي اتفق البلدانيون والمؤرخون القدامى على تسمياتها، أعني أن المناطق القديمة يجب أن يبقى الاعتزاز بتسمياتها موجودا، فهي التي توحي بحقيقة تنوعها، ورفض تغيير أسمائها لأسباب سياسية ولمجرد نزوح أعداد هائلة لها في أثناء الحرب العالمية الأولى وما تلاها، ويزداد الرفض والنظر إلى هذا التغيير على أنه إلغائي تزويري احتلالي وإلى القائمين عليه بأنهم غزاة، حين لا يكون لهذه المدينة أو المنطقة ميراث بلغتهم يعتد به سبق القرن العشرين.
إن تنوع منطقة الهلال الخصيب الكبرى وثراءها الثقافي، قابلهما في عصرنا الراهن ولاسيما في العقود القليلة الأخيرة انتشار ظاهرة إلغائية استحواذية إقصائية لمتطرفي المؤدلجين في هذا الإقليم الحيوي، وأصبح تفشي خرائط تمثل الأرض التي تدعيها كل قومية أو إثنية أمرا طبيعيا، مع إنشاء سرديات تزعم عراقة هذه الفئة ودورها الحضاري وسيطرتها الثقافية على المنطقة التي تسكنها حاليا، وثمة خرائط تضم مدنا بغالبية قومية وثقافية مطلقة لفئات أخرى حتى الآن مثل الموصل ذات الغالبية العربية أو عربخا (كركوك) ذات الغالبية التركمانية حتى إحكام سيطرة البعثيين على العراق، ومناطق لا يشكل أصحاب الخرائط هذه نسبة النصف فيها، أو شكلوا الأكثرية عبر العقود القليلة الماضية وبعضها بعد سنة 2003 وفي معظم الحالات كان هؤلاء أقلية ضئيلة قبل الحرب العالمية الأولى، وثقافتهم هي ثقافة الغالبية وليس لهم من قوميتهم أو إثنيتهم إلا الاسم.
مع تشابك هذه السرديات وانتشار الخرائط المعتمدة على روايات في الأغلب بائسة، سطرها رحالة أجانب، أو مستشرقون لأسباب سياسية لا علاقة لها بواقع الحال، وجدت أن أضع ضوابط للاستدلال إلى الصواب الأقرب للحقيقة والمنطق العلمي، للإجابة عن الأسئلة التي كثيرا ما أرقتني في ما يخص الأحداث التي عصفت بوطني العراق وتراجع قيمه المدنية وانهيار الدولة الوطنية، وظهور سرديات الأقليات التي تحمل العراق والعرب والإسلام نتائج ما حصل ويحصل من تجاوزات القوميين العرب قبل سنة 2003 والأحزاب المتأسلمة بعد ذلك التاريخ.
تتمثل هذه الضوابط بالمنجز التدويني لكل قومية أو إثنية تدعي أحقية بأرض ما، وبلغة اليوم محافظة أو مدينة أو محافظات عدة، أو مساحات ومناطق شاسعة، وبعدد البيوتات (الأسر) التي تنتمي إليها ثقافيا أولا وعرقيا ثانيا لأهمية الثقافي في منطقة لم تكن يوما أحادية اللغة والعرق والدين والمذهب، وأهمية الحضور الاجتماعي والثقافي لهذه البيوتات (الأسر) وتأثيره على مدينة ما.
الإشارات القديمة التي تحدثت عن وجود عربي في منطقة الهلال الخصيب، كثيرة وبعضها سبق الميلاد بقرون طويلة، وأكثرها انتشارا لا يرقى إلى أبعد من القرن التاسع قبل الميلاد، وعليه يعد خبر قيام الملك العراقي نرام سين (حوالي 2200 ق.م) وإخضاعه لعرب الأراضي المحيطة ببابل، أقدم خبر يصلنا عن وجود عربي في العراق ومنطقة الهلال الخصيب، ثم تتواتر الأخبار والإشارات عن دور عربي وانتشار واسع كلما اقتربنا من ميلاد السيد المسيح، فهذا هيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد) يحدثنا عن مناطق شاسعة عند البحر المتوسط تمتد إلى مصر تحت حكم ملك عربي، وسترابو (ولد 64 ق.م)، يخبرنا عن العرب في أربيل وامتداداتهم شرقا نحو الجبال (زاغروس) وأما بليني (توفي 79 ميلادي) فيحدثنا عن وجود العرب في مناطق شاسعة من الهلال الخصيب ومصر ويصفهم بالثراء الفاحش، فهم ليسوا بدوا جياعا لا يغادرون الصحراء إلا للنهب والغزو مثلما كرست السرديات الفارسية المكتوبة بالعربية عنهم وتلقفها المستشرقون.
صورة العربي الذي يحكم ممالك في أعالي دجلة والفرات وجنوبهما وكثافته السكانية عند امتداد دجلة والفرات والليطاني والعاصي وبردى والنيل والخابور والكارون وغيرها من الأنهار، فضلا عن سواحل البحار والخلجان مثل الخليج العربي والبحر المتوسط والبحر الأحمر، حتى هناك من يوصلها إلى أذربيجان، أعني من المؤرخين الرومان، تجد أدلتها في العدد الكبير من الأعلام العرب الذين أنتجتهم تلك المناطق في مجالات الحياة كافة ممن ولدوا قبل منتصف القرن السابع الميلادي، وما النهضة الكبيرة التي قادتها الحيرة أولا، والتي كان حكمها يشمل مناطق شاسعة من العراق اليوم ومساحات من بلاد الشام والحجاز ونجد والمنطقة الشرقية من شبه الجزيرة العربية حتى نجران، إلا دليل على صدق المؤرخين والبلدانيين الإغريق والرومان.
علم التاريخ لا يستند إلا على وثائق وآثار ومسكوكات وأدلة ومنجز ثقافي تدويني ومؤثرات ثقافية – اجتماعية، عدا هذا هو مجرد حشو كلام لا يختلف عما تضج كتب الأقدمين به وكتاب التاريخ الشعبيين أي الذين لا يستندون إلى ما ذكر أعلاه، وانطباعات الرحالة الذين يجهلون المنطقة ولغاتها وتاريخها، فسطروا أكاذيب يستند إليها متطرفو القوميات غير العربية الآن، بما في ذلك تلك الإثنيات والمجاميع السكانية التي لم تعرف الكتابة قبل القرن العشرين وليس لديها من شعراء وأدباء أبدعوا بلغتهم الأم ممن كانوا كبارا في السن أو فارقوا الحياة قبل القرن العشرين، إلا أسماء تعد على أصابع اليدين أو ضعف ذلك.
◄ علم التاريخ في حقيقته لا يستند إلا على وثائق وآثار ومسكوكات وأدلة ومنجز ثقافي تدويني ومؤثرات ثقافية - اجتماعية
إن تغيير أسماء المدن والبلدات التاريخية بأسماء جديدة تتفق وتطلعات القوميين أو الطائفيين ومحاولة إعادة كتابة التاريخ بسرديات تكتبها الأوهام العنصرية الشوفينية أو الطائفية المذهبية، لهو عمل منح براءة وصكوك غفران للطغاة الذين حكموا المنطقة وأذاقونا الويل، ولم يتواروا إلا بقتل أو موت أو تدخل خارجي، لكنهم ملأوا منطقة الهلال الخصيب بطغاة كثر وقتلوا الروح الوطنية واستبدلوها بالروح العنصرية أو الطائفية، ونشروا ثقافة الصورة وصناعة الطغاة جنبا إلى جنب مع ثقافة الإلغاء والإقصاء والثقافة التعبوية التي تمجد بالقومية أو الطائفة، على حساب الوطن وحقائق التاريخ.
من هذه الثقافة ظهر لدينا كتاب بعضهم أكاديميون راحوا يعيدون كتابة التاريخ بطريقة يصبح فيها الاعتراض على مشروع صدام حسين بإعادة كتابة التاريخ ترفا، لأنهم انغمسوا بأوهام ترفضها أدنى شروط وقواعد البحث العلمي، فكل حادثة إيجابية بالتاريخ تزاح بعيدا، وتسلط الأضواء الكاشفة والمضخمة للأحداث على سلبيات التاريخ. يحق للقوميات الأخرى أن تفخر بأبطالها مهما كانوا قتلة ومجرمين وكفرة أما العرب فعليهم التبرؤ من جميع أبطالهم باستثناءات يسيرة، لأن القومي غير العربي دخل للدين وعن طريقه فرض رؤيته، ومع تنامي أوهام المتطرفين عربا وغير عرب، والطائفيين، جنبا إلى جنب مع تنامي صناعة النفط وارتفاع أسعارها بعد الثاني من أغسطس 1990 أولا وبعد احتلال العراق 2003، أخذت السرديات تتنامى بشكل مخيف.
لقد أصبح كل مسيحي سرياني ابن العراق الأصلي والحقيقي، وكأن عشرات الآلاف الذين نزحوا من بلاد الشام وإيران وتركيا ومصر بعد الإسلام وعشرات الآلاف الذين نزحوا في الحرب العالمية الأولى وما بعدها وأولئك الذين جلبهم الاحتلال البريطاني في سبتمبر 1918 من حكاري وتياري العليا وتياري السفلى (تركيا) عبر إيران، وهم يناهزون الخمسين ألفا، لا يشكلون نسبة كبيرة من مسيحيي العراق، فكل مسيحي سرياني منح ختم (ابن العراق الأصلي والحقيقي) في حين العرب وهم نسبة فيه جيدة منذ قرون سبقت الإسلام وأصحاب هويته الرئيسة عبر أكثر من ألف وأربعمئة سنة ليسوا سوى غزاة.
الفئات الأخرى لاسيما الشبك الذين أتى بهم الصفويون أصبحوا بناة الموصل، هذه المدينة التي تعد أحد أعرق المدن العربية في التاريخ، تم محو تاريخها وتسليمه للشبك على شرط تكريدهم. أما أولئك الذين بقوا على الأطراف ولم يدخلوا مدننا إلا فرادى حتى قرون قليلة مضت، ولم يتمكنوا من منح مدينتين هويتهم الثقافية حتى عشرينات القرن العشرين، بل لم تصطبغ بصبغتهم حقا سوى مدينة واحدة، ففي سردياتهم تقرأ عن جرائم ومجازر وهمية ارتكبها العرب بحقهم لإكراههم على دخول الإسلام، وأن ستين حمل بعير من الكتب حرقت على يد العرب الفاتحين. هؤلاء لم يعرفوا الكتابة إلا مؤخرا وما أنجبوه من شعراء وأدباء ماتوا قبل الاحتلال الأميركي للعراق هو دون المئتين بكثير، ومع ذلك تجد كتب مراكز البحوث أعلاه تنشر كل مزاعم هؤلاء بلا تدقيق وتحت لافتة خطيرة تقول: دع الفئات الأخرى تكتب تاريخها بنفسها دون تدخل، وكأن رؤساء هذه المراكز تجهل هوس القوميات الأخرى ببناء سرديات ملأى بالأوهام والعظمة والأمجاد التليدة مثلما هي طافحة بالإساءة للعراق وهويته الأم وللعرب.
التراث الأدبي
إذن لإيقاف هذا الطوفان من المزاعم والأوهام التي تتسيد الخطاب القومي والطائفي نحتاج، فضلا عن الآثار والنقوش والمسكوكات والسرديات الأخرى التي تحدثت عن فئة ما، إلى اعتماد الميراث المدون في تلك المدينة أو المنطقة وأي اللغات هي المتسيدة، وننظر في البيوتات (الأسر) ثقافيا وعرقيا، والطابع العام لثقافة المدينة عبر القرون الأخيرة، وكيف كان الوضع الثقافي والاجتماعي وحواملهما إجمالا، ووجهاء المدينة وخلفياتهم الثقافية على وجه الخصوص، بما في ذلك مختارو المحلات (الأحياء والحارات) لأن ميزة اختيار المختار أنه الأقدم سكنا في المحلة (الحي)، فضلا عن الشعراء والأدباء والكتاب، وأؤكد أن الحديث يكون عما سبق القرن العشرين.
حين تنتمي الشروط أعلاه (اللغة، الحوامل الثقافية والاجتماعية، البيوتات، الوجهاء، المختارون، الشعراء والأدباء والكتاب) إلى فئة واحدة كالسريان مثلا، تكون المدينة ذات هوية سريانية، وإلا لا يمكن عد المدينة لمن لا يملك هذه المقومات حتى لو أصبحت نسبته مئة بالمئة، لأن الأحداث التي جرت في الحرب العالمية الأولى وما تلاها من تشكيل الحكومات الوطنية وتنامي صناعة النفط والمعادن الأخرى، تسببت في تغيير سكاني كبير للغاية في العديد من المدن والبلدان، وأسهمت الهجرة من الريف والجبال والأطراف البعيدة والمسكوت عنه من هجرة نحو أهم بلدين في الإقليم وهما العراق وسوريا، إن كان من الحدود المشتركة أو العمقين الإيراني والتركي، وهجرة معاكسة للأقوام التركية أولا ثم تلاها منذ الستينات هجرة مسيحية (سريانية عربية بالذات) وقبلها قليلا هجرة يهودية (عربية – آرامية)، أسهمت في هذا التغيير الكبير والذي وصل في بعض المناطق إلى نسبة قد تصل إلى تسعين في المئة.
◄ التاريخ إذا لم يقرأ بوصفه تاريخا مدنيا لا تاريخا دينيا مقدسا فلن نصل إلى مقاربات نقدية تضيء لنا الطريق
لقد امتلأت كتب التراث العربي الإسلامي بالحديث عن حضارة فارسية عظيمة بل وأنواع الخطوط الفارسية التي كان الفرس يكتبون بها، وفي المقابل تتحدث هذه الكتب عن بداوة العرب وجهلهم وعصبيتهم القبلية الصحراوية أي همجيتهم مقابل المدنية الفارسية، لكن حفريات التاريخ أثبتت عكس التراث العربي الإسلامي، وهو أن الفرس لم يعرفوا الكتابة إلا بنطاق أضيق كثيرا مما عرفه العرب قبل الإسلام، فالنقوش العربية أكثر وأغزر في حين ليس للفرس سوى نقشين إن صحا، وأن المراسلات بين الملوك والأمراء والقواد كان باللغة الآرامية وليس الفارسية، وأن الهوية الكبرى للقومية وهي الأدب عامة والشعر على وجه الخصوص، لا مكان لها في تاريخ اللغة الفارسية ليس قبل الإسلام بل قبل القرن العاشر الميلادي لأن الفردوسي صاحب الشاهنامة (توفي 1020 م.) يعد أول شاعر باللغة الفارسية.
ما ينطبق على الكتابة وهي الأكثر أهمية وعلى الأدب والشعر ينطبق على العمارة الفارسية التي نهلت من العمارة العراقية، والكثير من الثقافة الفارسية بمعناها الواسع جذورها عراقية من عيد الأكيتو، أي عيد رأس السنة، الذي أصبح عيد النوروز، وليس انتهاء بعقائد تأثر الفرس بها واضح. وعلى الرغم من السيطرة الفارسية في التدوين زمن العباسيين لاسيما زمن البويهيين والسلاجقة، لكن هذا التاريخ أبى إلا أن يخبرنا عن إرسال أحد الملوك الفرس لابنه وولي عهده ليتعلم الفصاحة والفروسية وأخلاقها في الحيرة ويستنشق هواءها العذب، مما يعني أن الحيرة عاصمة العرب كانت مدينة خضراء ذات هواء عليل.
لم تثبت حفريات التاريخ أيا من مزاعم الفرس في ما يخص مكتبتهم التي تضم مليوني كتاب قرب طهران التي أحرقها العرب، لأن هذه الحفريات حتى هذه اللحظة تقول إنه لا وجود لشعراء وأدباء ومؤرخين وباحثين ومفكرين ومتكلمين وفلاسفة فرس؛ ذكرت هذا عن الفرس للتدليل على أن لا قيمة لما يقوله المؤرخ القديم والرحالة إن لم تقابله أدلة أهمها التدوين والموروث الشفاهي الغزير الذي من المفروض عند قومية مدنية عريقة كما يرى الفرس أنفسهم أن هذا الموروث تم تدوينه بلغتهم قبل الإسلام، وأن الذاكرة الجمعية للفرس قد احتفظت بأسماء عدد كبير من شعرائهم ومغنيهم وأدبائهم وأعلامهم بصورة عامة، لماذا سقطت هذه الأسماء عن الذاكرة الجمعية، ولماذا لم نر موسوعات حتى لو في بداية العصر العباسي حفظت لنا هذا التراث كما حدث مع تدوين التراث الشفاهي العربي؛ الأمر ببساطة أن لا وجود لتراث فارسي وأن الإمبراطورية الفارسية كانت عسكرية قوامها الحروب والقتل والاستعباد.
التاريخ المدني
من ليست لديه مئات الموسوعات والآلاف من الكتب خطت بلغته قبل قرون وأضعاف هذا العدد قبل الحرب العالمية الأولى التي كثيرا ما تحجج بها بعض متطرفي الأقليات أنها أنتجت أوطانا لا وجود لها والإشارة إلى العراق وسوريا هنا، من هنا يصبح نسب مدينة ما لقومية أو إثنية، تزعم حقوقا مطلقة بالمدينة وليس لديها عشرات الشعراء وأضعاف ذلك من الأدباء ينتمون إليها ثقافيا وعرقيا، ولدوا في أزقتها القديمة قبل القرن العشرين، وبيوتات وأسر أيضا، هو احتلال غاشم وعلى وجه الخصوص حين يكون الميراث الكتابي لهذه المدينة بلغة أخرى.
إن الشروط أعلاه والأحداث التي تطرقنا إليها، تحيلنا إلى رفض وجود أرض عربية وأخرى غير عربية، وإلى تأكيد عروبة الهلال الخصيب، مع اعتزاز بتنوعه والإيمان بأن هذا التنوع هو ثراء منح الإقليم خصوصية، يجب التصالح معها، مثال ذلك أن العراق عربية هويته الأم ولكن عمقه السومري – الأكدي (البابلي – الآشوري) مع مؤثرات فارسية تركية لا يمكن نكرانها وبدرجة أقل كثيرا يونانية هندية، لا تؤثر على عروبته كما يظن العروبيون بل هي ثراء يكون الاعتزاز بها والتصالح معها طريقا لتفهم طبيعة المجتمع العراقي.
وأخيرا فإن التاريخ إذا لم يقرأ بوصفه تاريخا مدنيا وليس تاريخا دينيا مقدسا فلن نصل إلى مقاربات نقدية تضيء لنا الطريق، لأن التقديس سلبا (القراءة الشيعية الفارسية) وإيجابا (القراءة الرسمية السنية) زاد الطين بلة، وحين تتم قراءة التاريخ قراءة مدنية، تنظر لكل الأديان والمذاهب والقوميات والإثنيات على أنها مجتمع واحد يخضع للأنساق المعرفية نفسها والحوامل الاجتماعية.
هنا لا يصبح المتدين المسلم رجعيا متطرفا، والمتدين الذي ينتمي إلى دين آخر عكس ذلك، وداخل دائرة الإسلام يكون الأمر سيان لا فرق بين شيعي وسني، والاختلافات الطفيفة إنما قوتها لا تختلف عن المسلم وغير المسلم، ولا يتم التعاطف مع القومي غير العربي لمجرد أنه غير عربي أو أقلية، فالعنصرية لا دين لها ولا قومية، وبذلك تتكشف لنا أسباب هزيمتنا وتراجعنا وتخلفنا، ويصبح تفكيك ثقافتنا بطريقة علمية تخلو من العواطف الجياشة مع أو ضد، أمرا مقبولا في المجتمع مثلما عليه الحال في الغرب.
• ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية