"سدهارتا" أنقذت شباب أوروبا عبر جسر ثقافي مع الشرق

حاول عدد من الكتاب الأوروبيين تجاوز تداعيات الحرب العالمية الثانية على الأفراد والمجتمعات من خلال أعمالهم الروائية، فظهرت روايات ناقدة تحاول أن تمد يد العون للإنسان من أجل تجاوز محنه الوجودية، ولعل أشهرها رواية الألماني هرمان هسه «سدهارتا» التي تكررت ترجمتها إلى العربية لأن أغلب الترجمات تفتقد إلى الدقة.
شرع الروائي الألماني هرمان هسه (1877 – 1962) يكتب “قصيدته الهندية” وروايته بعنوان “سدهارتا” في ديسمبر عام 1919، أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى التي خلفت دمارا غير مسبوق، وراح ضحيتها نحو تسعة ملايين إنسان. كانت فترة انهيار قيم، وسقوط إمبراطوريات، وجدت صداها في عنوان المؤلف الضخم الشهير الذي وضعه أوسفالد شبنجلر “سقوط الغرب”، وهو عنوان كان يعبر عن الحالة النفسية للملايين في أوروبا.
وتعتبر “سدهارتا” من أكثر الأعمال الأدبية الألمانية تأثيرا في العالم كله، إذ بلغت مبيعات نسخها وترجماتها ما يزيد عن عشرين مليون نسخة، وتُرجمت إلى ما يزيد عن الأربعين لغة، وكذلك إلى العديد من اللهجات الهندية.
هذا ما يؤكد عليه المترجم والكاتب سمير جريس في مقدمته لترجمة “سدهارتا”، مضيفا “لعل ترجمة ‘سدهارتا’ من أكثر الترجمات التي أنجزتها جمالا، والفضل يعود بالطبع إلى شاعرية أسلوب هسه، وهي ربما الترجمة التي تقترب من هدفي في أن يكون النص المترجم نصا عربيا مبينا يجري في أجواء أجنبية”.
الرواية تحاول العثور على المشترك في مختلف العقائد وأشكال التديّن، وهو ما يسمو فوق كل الاختلافات بين الناس
يقول سمير جريس في ترجمته الصادرة عن دار الكرمة “كان هسه قد تعرف مبكرا على أفكار الهندوسية والبوذية عبر الجد والأب والخال، ويمكن القول إنها طبعت تفكيره، إذ رأى فيها اقتراحات جيدة لحل مشاكل أوروبا المادية، لذا ينظر النقاد إلى ‘سدهارتا’ باعتبارها جسرا بين الثقافتين الشرقية والغربية. وكان هسه قد ارتحل إلى الهند في عام 1911، مسقط رأس والدته، وكان لتلك الرحلة تأثير كبير في نفسه، وربما نمت هناك
بذرة سدهارتا. بعد عودته من الهند تعرض لأزمة نفسية كبيرة إثر وفاة والده في عام 1916، ومرض زوجته الأولى بالفصام (الشيزوفرينيا)، ومرض ابنه الأصغر، وكذلك تعاسة حياته الزوجية. كل ذلك دفعه إلى البحث عن علاج نفسي لدى أحد تلاميذ عالم النفس المشهور كارل يونج، ثم لدى يونج نفسه. وفي تلك الفترة شرع يكتب سدهارتا”.
ويوضح جريس أن الرواية تستلهم قصة حياة بوذا (556 – 476 ق.م)، وعن ظروف كتابتها قال هسه إنها “اعترافات رجل نشأ وتربى في أجواء مسيحية، لكنه هجر الكنيسة مبكرا، وحاول جاهدا أن يفهم الديانات الأخرى، لاسيما العقائد الهندية والصينية”.
وأضاف أنه حاول العثور على “المشترك في كل العقائد والأشكال الإنسانية للتدين، الشيء الذي يعلو على كل الاختلافات القومية”. ومع أن “سدهارتا” تستلهم الثقافة الهندية، فقد كان هسه يعتبرها “أوروبية للغاية”. ورغم موضوعها الروحاني فإنها تخلو تماما من الوعظ، إذ إنها تصف فحسب الدروب والمتاهات التي يسلكها سدهارتا (ويعني اسمه “الذي بلغ هدفه”) خلال البحث عن طريقه في الحياة، وخلال المواءمة بين الاحتياجات الدنيوية والروحية.
“سدهارتا” تؤكد على قيمة الفردية، وهو ما لا تفعله التعاليم البوذية والهندوسية، فالطريق إلى الحكمة لا يقود في رأي هسه عبر اتباع التعاليم الدينية وأداء الطقوس وتقديم القرابين، مثلما تقول الهندوسية والبوذية، بل عبر الفردانية، والبحث عن الذات بعيدا عن الجماعة، وبعيدا عن سلطة المعلمين وسلطة رجال الدين.
حول سؤال لماذا ترجمة جديدة لـ”سدهارتا”؟ يقول جريس “من بين أكثر من أربعين ترجمة أنجزتها عن الألمانية، هذه أول مرة أترجم فيها عمل سبقت ترجمته. ما الذي دفعني إلى ذلك؟ هناك بالطبع أسباب عديدة تبرر إعادة ترجمة الكلاسيكيات، لاسيما إذا كانت ترجماتها الأولى عن لغة وسيطة مثل الإنجليزية أو الفرنسية. وحتى العمل المترجم عن لغته الأصلية مباشرة قد يكون بحاجة إلى إعادة ترجمة بعد مرور عقود، خصوصا إذا كانت الترجمة حافلة بالأخطاء”.
ويضيف “يستطيع القارئ مطالعة ‘سدهارتا’ في عدة ترجمات عربية، لعل أكثرها شيوعا ترجمتان عن الإنجليزية، الأولى للمترجم فؤاد كامل، والثانية للكاتب السوري ممدوح عدوان. أما ترجمة جيزلا فالور حجار عن الأصل الألماني فتتسم بالحرفية الشديدة التي تعوق القراءة في الكثير من الأحيان، وأعتبرها أقل الترجمات توفيقا، ومن يريد الاطلاع على نماذج من الأخطاء الفادحة التي تقع فيها هذه المترجمة، أحيله إلى كتابي ‘جونتر جراس ومواجهة ماض لا يمضي’، وفيه عرضت بالتفصيل إشكاليات ترجمتها الكارثية لكتاب جراس ‘مئويتي'”.

ويؤكد “اطلعت على الترجمات الثلاث سابقة الذكر، وقرأت بإمعان الترجمتين اللتين أنجزهما فؤاد كامل وممدوح عدوان، وكل منهما جيدة في العموم، ولها سماتها الأسلوبية الخاصة، لكن يعيبهما في رأيي أنهما عن لغة وسيطة، الإنجليزية، ولذا تكرران أخطاء الترجمة الإنجليزية نفسها، من حذف لبعض الكلمات أو أجزاء من الجمل، وكذلك فهم بعض العبارات فهما خاطئا. وربما أكثر ما يلفت النظر فيهما هو البُعد عن أسلوب هسه الشاعري، البسيط والبليغ في آن واحد، والابتعاد كذلك عن إيقاع جملته، إذ إن هسه يتعمد تكرار بعض الكلمات لتعميق تأثيرها، والمساواة في طول الجمل الفرعية لإيجاد نوع من الموسيقى الجميلة”.
ويتابع “هسه هنا يحاكي أسلوب كتب التعاليم الدينية والنصوص المقدسة. في الترجمات السابقة نادرا ما نجد انعكاسا لأسلوب هسه. ‘مذاق’ النص العربي مختلف تماما عن ‘مذاق’ الأصل الألماني. كل هذا كان دافعي إلى إنجاز ترجمة جديدة لهذا العمل البديع الذي أعتبره درة أعمال هرمان هسه (نوبل 1946)، إضافة إلى عشقي لهذه الرواية ورغبتي في تقديمها في صورة عربية لائقة. وفي النهاية، آمل أن أكون قد وفقت في أن ينطق سدهارتا بالعربية، على النحو الذي أراده هسه بالألمانية. الترجمات المختلفة أمام القارئ الآن على كل حال، والحكم الأخير له”.
ويذكر جريس أن هسه روائي من طراز خاص، ولعل أجمل رواياته هي حياته نفسها. إنه من الأدباء الذين لا يكتبون إلا عما تجيش به صدورهم، وما تكابده أرواحهم، عما مروا به وخبروه وعانوا منه. ورغم عدد أعماله الضخم (أحصى أحد الباحثين أكثر من مئتي كتاب وكتيب أصدرها هسه، ما بين شعر وقصة ورواية وتأملات، عدا آلاف المقالات ومراجعات الكتب)، فلا يمكن اعتبار عمل من أعماله سيرة ذاتية محضة، لكن معظم ما كتبه يقترب كثيرا أو قليلا من سيرته الذاتية.
وتعتبر بعض أعماله تنويعات واضحة على سيرته الذاتية، مثل “تحت العجلة” و”دميان” و”ذئب البراري” و”سدهارتا”، وكلها تتناول موضوعه المحوري: بحث الإنسان عن طريقه الخاص الذي يحقق له السعادة، والإنصات إلى صوت القلب، والبحث عن التوازن بين الروحانيات والدنيويات، والتحرر من كافة الضغوط وكل أشكال السلطة، سواء السلطة الأبوية أو الدينية أو السياسية. ورغم اقتراب أعماله من السيرة الذاتية، لم يكن ينقصه الخيال، مثلما نرى في رواية “سدهارتا” التي يعتبرها المترجم جريس من أجمل ما كتب.