سجال في مواقع التواصل بين الفرح بالحرية والحزن على ضياع سوريا

احتد النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي بين ناشطين عرب وسوريين بشأن الأحداث التي ستجري بعد سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وطبيعة الحكم القادم الذي يخشى البعض ألا يكون أفضل من السابق.
القاهرة - تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة للتراشق بالآراء حول المشهد الجاري في سوريا قبل أن يكتمل مع وقوع الزلزال المتمثل في سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد بين سوريين من ناحية ومصريين وتونسيين من ناحية ثانية. فسارع البعض إلى حساباتهم للتعبير عن مواقفهم، والكتابة من واقع خبراتهم وتجاربهم.
وهلل أغلب السوريين عبر حساباتهم على مواقع التواصل فرحين بورود أول أنباء سقوط النظام التي حملتها كلمات قصيرة بثتها وكالة رويترز في خبر عاجل يفيد بأن “بشار الأسد غادر دمشق إلى جهة غير معلومة،” لتنطلق بعد صمت طويل سيول منشورات سعيدة، غير مصدقة، وتتلون الصور الرئيسية لخريطة البلاد مكتسية بالورود، ودُونت عليها عبارة “سوريا للجميع.”
كان الجميع كان مستيقظا مترقبا برغم أن الوقت فجرا في انتظار هذه اللحظة، بعد عقود جثم فيها الخوف على الصدور وخرست الألسنة، إذ كانت الكلمة التي ينطق بها المواطن كفيلة أن تذهب به إلى ما اعتاد السوريون تسميته “بيت خالتي” للإشارة برمزية إلى الاعتقال في سجون الأجهزة الأمنية.
دونت في الحال كاتبة الدراما السورية يم مشهدي التي ناقشت ما جرى في سوريا بعد الحرب في عام 2011 وتجارب الاعتقال دون سبب في مسلسل “قلم حمرة” الشهير، إخراج الراحل حاتم علي، فكتبت على حسابها “خايفة إنو مو خايفة” لتعبر بأربع كلمات فقط عن فكرة مؤلمة، وهي اعتياد الخوف دهرًا إلى درجة الخوف من عدم وجوده.
السوريون اختاروا أن يعيشوا لحظة الفرح كما هي على مواقع التواصل، يستمتعون بنشوته، دون منغصات عقلية
وكتب سوريون من واقع تجربتهم الأليمة فرحين بالتغيير، غير عابئين بكيفية وقوعه أو على يد مَن جاء. قرروا بإرادتهم تأجيل التفكير مؤقتا لاقتناص لحظة فرح طال انتظارها ولم يكن متوقعا من الأصل أن تأتي.
وراح آخرون يراقبون المشهد ككل من الخارج، يقيمونه من منظور العقل وليس الشعور، معتبرين أن سوريا دخلت نفقا مظلما بعد أن نجحت فصائل مسلحة، كان قائدها قبل سنوات محسوبا على تنظيم القاعدة، في إسقاط الدولة والسيطرة على مقاليد الأمور، ما ينذر بأخطر العواقب والشرور. واعتبر الإعلامي المصري محمد سعيد محفوظ أن سفينة الأسد كانت متهالكة ومتكئة على الغير، وبعد التخلي عنها وتحطيمها ستغرق سوريا في مستنقع الحرب الأهلية والصراع على السلطة، قائلا “إن الذين يحتفلون بسقوط الأسد اليوم سيترحمون على أيامه الصعبة حين يأتي الأصعب.”
واقتطعت بعض المواقع الإخبارية جملته الأخيرة وحدها ما أثار ضجة، دفعته إلى التعليق قائلا “اجتزاء التصريحات لجذب الانتباه من شيم المواقع الرخيصة التي تفوح منها رائحة الروث.”
وكتبت أستاذة الإعلام المصرية أميرة سمير أن الحوادث تثبت أننا شعوب لا تتعلم أبدا، والسيناريوهات المتوقعة القادمة أكثر رعبا من عصر بشار الأسد، لأن أي تغيير يأتي على يد جماعة مسلحة لابد أن تكون عليه خمسون علامة استفهام.
وعبرت الكاتبة التونسية فتحية دبش عن الفكرة نفسها، لافتة إلى أن التغيير الذي يمكن التعويل عليه هو ذلك الذي ينتجه وعي الشعوب. وعبر كل طرف عن موقفه من منظوره، من واقع تجربته التي مر بها في بلاده، لكن السؤال هو: هل غابت عن السوريين في غمرة فرحتهم بسقوط الأسد المخاوف بشأن المستقبل وسيطرة فصائل ذات مرجعية دينية؟
تجيب الصحافية السورية زينة إبراهيم عن السؤال بمنشور بدأته بمخاطبة الأصدقاء المصريين والتونسيين الذين مروا بتجربة الثورة من قبل، ممن راحوا يفندون مستقبلنا (كما تقول) ويحللون حاضرنا المضطرب بالنظر لتجاربهم “ونازلين فينا مواعظ وحكم” وتضيف: “والله نحن حضرنا حلقات من مسلسلات لم تروها، وإن شاء الله لا ترونها أبدا.”
وراحت زينة إبراهيم تعدد صورا من مآسي السوريين في زمن الحرب من اعتقالات وتعذيب وحصار اضطر فيه الناس إلى أكل أوراق الشجر، وحرب شوارع وتقسيم وتهجير وشتات، وضربات بالسلاح الكيماوي مات فيها البشر وهم نائمون في بيوتهم، وتنظيمات ومجاهدين أجانب يتكلمون باللغة العربية الفصحى، إلى أن وصل السوريون إلى الحلقة التي ظنوا أنها الأخيرة، حلقة اليأس، حتى جاء اليوم (سقوط النظام) “وشو بدي خبركم عن اليوم”(كيف أحدثكم عن جمال اليوم)، لذا فلا تحملوا همًّا سوف نأتيكم في الغد أو بعد الغد، أم تحبون أن تأتوننا أنتم؟ في إشارة إلى إدراك كل السيناريوهات المحتملة في المستقبل.
واختار السوريون أن يعيشوا لحظة الفرح كما هي على مواقع التواصل، يستمتعون بنشوته، يستنشقون عبيره، دون منغصات عقلية، أو أن يغفلوا عما ينتظرهم، فقد مروا بمثله وعاشوا ويلاته حتى خبروها جيدا. إن هي فقط إلا لحظة من عمر الزمن، انتظروها وأرادوا ألا تفلت من بين أيديهم.
وبلهجة معاتبة، قال الكاتب الروائي السوري هوشنك أوسي عبر حسابه على فيسبوك إن المصريين فرحوا بإسقاط نظام حسني مبارك، وفرح الكثير من السوريين معهم، وأنا منهم. وتكرر الأمر نفسه بحذافيره مع إسقاط نظام الإخوان في مصر، فالسؤال الآن هو: لماذا يستخسر بعض الأخوة المصريين، خاصة النخب والمثقفين، على السوريين “شوية فرح” (بعض الفرح)، منوها أن نظام مبارك في أسوأ حالاته كان أفضل ألف مرة من نظام بشار وأبيه حافظ الأسد، “ما يصحش كده” (لا يصح هذا).
هناك من يرون أنه من حق السوريين أن يفرحوا بإزاحة رجل جثم هو ووالده خمسة عقود على صدورهم، وأكبر منجزاته رقم قياسي من التماثيل في دمشق والمدن الكبري
وتعليقا على جدل الأفكار الدائر، اعتبر الكاتب الروائي الأردني جلال برجس أن من أنفق عمره في حقل الخوف لا يمكن أن يُنصت الآن “لتخوفاتك المستقبلية”. ولا يمكن لمن غادر سجنًا، ذاق فيه ما لا تقدر على تخيله، أن يقبل أن تُكسر فرحته وهو يُقبل على حصته من الحرية. وأن كل ما يجب أن يقال الآن: “أمنياتنا بغدٍ مشرقٍ سالمٍ لسوريا والسوريين.”
وانتهج الصحافي عزت إبراهيم رئيس تحرير صحيفة “الأهرام ويكلي” المصرية في رؤيته للحدث السوري الكبير طريقا يجمع بين التحليل السياسي وما ينطوي عليه من مخاوف مستقبلية كبرى، والتفهم لمشاعر السوريين الحالية، فسخر ممن وصفه بـ”الكومبارس” أحمد الشرع “أبومحمد الجولاني” القادم من مقعد الـ”سي.إن.إن” إلى المسجد الأموي في مشهد هزلي لا يحدث إلا في السينما الأميركية، وظهر في شوارع دمشق يطمئن الناس ويبشرهم بعالم سعيد، في حين أنه الذراع الظاهر لترتيبات أكبر يتم تجهيزها وطبخها على غرار ما حدث بعد الحرب العالمية الأولي، لتقسيم المنطقة على أسس دينية وعرقية.
واعتبر إبراهيم من حق السوريين أن يفرحوا بإزاحة رجل جثم هو ووالده خمسة عقود على صدورهم، وأكبر منجزاته رقم قياسي من التماثيل في دمشق والمدن الكبري، محذرا “ستذهب السَكرة وتأتي الفكرة” بعد أن تهدأ النفوس ويبدأ السوريون في الحديث عن المستقبل، فإما أن ينتزعوا وقتها دولتهم من أنياب التطرف والصفقة الكبرى أو تختطف الميليشيات هذا المستقبل بلا رحمة وتتجه بلدهم نحو التقسيم أو الإضعاف.
في محاولة للتفاؤل وإدراك الأمل بأي شكل، أكد أن سوريا “ليست كغيرها من المجتمعات الضعيفة إنما تملك النخب السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية الواعية التي يتعين أن يعلو صوتها الآن مثلما حدث في معارضتهم للأسد.”
ولم يقتصر جدل الأفكار على الآراء والتحليل والمشاعر، إنما تخطاها إلى الشعر. الصحافي المصري أحمد هواري الذي سبق له أن غطّى الأحداث المشتعلة في سوريا وليبيا ميدانيا على الأرض، وأصدر عام 2015 رواية “أحفاد قابيل” حول تداعيات ما سمي بـ”الربيع العربي” في البلدين، كتب على حسابه في موقع فيسبوك قصيدة شعرية، عبرت بدقة عن مشاعر السوريين وصراع الأفكار داخلهم في لحظتهم الآنية.
هكذا هو الأمر إذًا. في هذه الدائرة ندور. بين مطرقةٍ وسندانٍ نُحشر. بين مطرقة دكتاتوريات ظالمة وسندان جماعات إرهابية. إن هي إلا أيام قصيرة من الفرح، وعصور من الخوف والترقب والقلق. على هذا النحو في منطقتنا تجري حياة الشعوب، مفعولٌ بها دوما، لا تملك قرارها، لأن حكامها اختاروا كبت حريتها، وتغييب وعيها، كي يبقوا أبد الدهر في كراسيهم، فأنتجوا بأنفسهم نوعية معارضتهم، إرهابية مسلحة، وحق عليهم وعلينا هذا المصير، المظلم، المأزوم، الذي توجهه أيدي الأعداء دومًا.