سترازبورغ وجهة أخرى للغزو الديني التركي

باتت مناورات تنظيم الإخوان المسلمين الفكرية والأيديولوجية في أوروبا مكشوفة بعد أن تيّقن القادة الأوروبيون من خداع الجماعة وتخفّيهم وراء المؤسسات الدينية والعمل الخيري والإنساني من أجل تحقيق أهداف سياسية. وضيّقت دول الاتحاد الأوروبي على نشاط الجماعات الدينية الإسلامية التي استغلت هامش الحرية وترسانة القوانين التعددية المتاحة للمواطنين الأوروبيين من أجل تنفيذ أجنداتها السياسية، لكن التحدي لا يزال متواصلا بعد أن طورت الجماعة أساليبها ومصادر تمويلها.
سترازبورغ (فرنسا) – أفادت وسائل إعلام تركية بأن وقف المعارف التركي افتتح في مدينة سترازبورغ الفرنسية، مركزا تعليميا يقدم خدمات للطلاب الجامعيين وما دون، ليشمل كافة الفئات العمرية في مراحل التعليم، رغم أنّ وزير التعليم الفرنسي كان قد أكد في مايو الماضي أنّ بلاده لن تسمح لنظام تركيا “العدواني” بفتح مدارس على الأراضي الفرنسية.
وأفاد موقع “أحوال تركية”، الناطق بالإنكليزية والتركية والعربية، أنّ حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم، يتبع أسلوب المُساومة والتهديد بإغلاق المدارس الأوروبية والدولية في تركيا في حال لم يُسمح له بإنشاء مدارس تابعة له في تلك الدول، وهو ما قام به مؤخرا من خلال التهديد بإغلاق المدارس الفرنسية في كلّ من أنقرة وإسطنبول.
وأثارت فكرة افتتاح مدارس دينية تركية في فرنسا، ردود أفعال مستهجنة تخوفا من زرع أفكار دينية متشددة في عقول الطلبة، ولجهة المواضيع التي تدرسها المناهج التعليمية التركية والمتعلقة بتعاليم الإسلام الخاصة بالجهاد وغيره، مع تدنّي مستوى المنهج العلمي لتلك المدارس بالاعتماد على مدرسين في علوم الدين.
وفي عام 2012، تمّ افتتاح كلية الشريعة بجامعة سترازبورغ الفرنسية، حيث تتبع كلية الشريعة بجامعة إسطنبول للعمل على تخريج موظفين دينيين مؤهلين، لكنّ السلطات الفرنسية قامت بإغلاق الكلية لاحقا للتجاوب مع المخاوف المشروعة من فكر الإسلام السياسي القادم من تركيا.
ويواصل وقف المعارف التركي وبإشراف من مجلس الوزراء، منذ تأسيسه عام 2016، إقامة فعاليات في 70 دولة مختلفة حول العالم. وقد أنشأت وزارة التربية والتعليم التركية وقف المعارف كوقف تعليمي ليتولى إقامة مدارس دينية خارج البلاد، في خطوة تطرح بديلا للمدارس التابعة لمنظمة رجل الدين فتح الله غولن، الذي تتهمه السلطات التركية بالوقوف وراء عملية الانقلاب الفاشلة في 2016.
وكان وزير التعليم الفرنسي جان ميشيل بلانكي، قد هاجم مشروع إنشاء مدارس ثانوية تركية في بلاده، مُستنكرا محاولات السلطات التركية لتوسيع نفوذها خارج حدود بلادها.
وأكد بلانكي أنّه يرفض المشروع التركي بإنشاء مدارس تركية في فرنسا، مُضيفا “لدينا الكثير من بوادر سوء النية القادمة من تركيا، وهناك قلق كبير بشأن ما تفعله السلطات التركية مع الجاليات التركية في فرنسا”.
وأسس وقف المعارف التركي تمثيليات في 35 بلدا، وهو يمتلك حاليا ما يزيد عن 100 مدرسة لمختلف المراحل التعليمية في 20 دولة، حيث يواصل أكثر من 10 آلاف طالب دراستهم في هذه المدارس. ويعول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عدد من رجال الدين الأتراك المنتشرين في أوروبا، الذين يدينون له بالولاء، لتسويق خطاب أصولي يخدم أجندة تنظيم الإخوان المسلمين، ما دفع بالدول الغربية إلى رفض انتداب الأئمة الأتراك في المساجد.
ولم تمض أشهر قليلة على تورط أنقرة في التجسس على مواطنين أتراك في ألمانيا، حتى أعلنت فرنسا استبعاد الأئمة القادمين من تركيا، والبحث عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل، بعد اتهامهم بتصدير خطاب أصولي لمصلحة النظام الحاكم في تركيا.
والواقع أن الأئمة الأتراك يعدّون واجهة خفية لتشكيل الحياة الدينية للأتراك المقيمين في أوروبا لخدمة أهداف سياسية، علاوة على الدور المحوري الذي يلعبونه لتكريس توجهات سلطة الحكم في تركيا، قام بها الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية.
ورغم أن الاتحاد الذي تأسس في العام 1924، كان الهدف منه الحفاظ على الإسلام في الجمهورية التركية العلمانية، لكنه تحول في عهد أردوغان إلى أداة سياسية لتعزيز مصالح حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويتجلى الاستخدام السياسي للأئمة الأتراك بأوروبا، في ترويج خطاب سياسي يستدعي إرث العثمانية القديمة، ومحاولة إحياء مظاهرها في ثوب جديد، خصوصا أن أردوغان يرى أن هناك عددا من دول أوروبا تُعد امتدادا للتواجد التاريخي العثماني بأوروبا في الماضي.
وفي هذا السياق، يصعب النظر إلى الرفض الفرنسي، بعيدا من توجهات السلطة في تركيا لأسلمة المجتمع، كما لا يمكن فصل القرار الفرنسي عن توجهات الاتحاد الأوروبي الذي قضى بتجميد مفاوضات عضوية تركيا في ظل تماهي أردوغان مع التيارات المعادية للعلمانية.
وتبدي أوروبا قلقا بشأن دعم أنقرة للكيانات الدينية المتطرفة في عدد كبير من دول المنطقة، من خلال توفير الاستضافة والدعم المالي والمنصات الإعلامية، حيث يقترن الرفض الفرنسي للأئمة الأتراك، بتوجهات دول أوروبية تتصاعد شكوكها حيال دور سياسي مشبوه للأئمة الأتراك.
كما تجلت مخاوف أوروبا، في فبراير 2015 عندما وافق برلمان النمسا على مشروع قانون ينص على إخلاء البلاد من الأئمة الأتراك العاملين في مساجد تابعة لفرع الاتحاد الإسلامي التركي، والامتناع عن استقبال أئمة جدد من تركيا.
وتستدعي حادثة رفض فرنسا تعيين الأئمة الأتراك، العديد من الأبعاد السياسية، لأن التوجهات السياسية التركية في الداخل والخارج باتت تتسم بالاضطراب وتغيير التموضع، وبات يتعذر على أوروبا فهمها، من منظور استقرار تركيا، أو من منظور التوجه التركي نحو دعم جماعات الإسلامي السياسي.