زورق الأهوار يسافر في العالم
وأخيراً وافقت اليونسكو على ضم الأهوار العراقية إلى لائحة التراث العالمي، ليخرج هذا الملف من محليته المغلقة إلى الحيّز العالمي وتحت رعايته. وبات من المؤكد أن هذا العالَم السحري بكل مكوناته الطبيعية سيكون عالَماً سياحياً واستثمارياً وثقافياً جاذباً لمن يبحث عن التاريخ والجمال والأسطورة والمعرفة في أولى تشكلاتها الجمالية والإنسانية في الأهوار الوسطى والحمّار الشرقي والغربي وهور الحويزة والمدن الأثرية المعروفة التي تم التصويت عليها أيضا هي أور والوركاء وأريدو.
الأهوار عالم استثنائي في الخارطة العراقية ومكان له خصوصيته المتميزة تاريخياً وجغرافياً لكونه بيئة فريدة في مواصفاته المتعددة؛ ثراء ومعرفة، وما يتمتع به من جماليات في الثقافة التاريخية والأسطورية التي شغلت الباحثين والمستشرقين طويلا، ويُعد أرشيفاً ضخماً وموسوعة إنسانية كبيرة لبلاد النهرين التي وُجدت فيها حضارة بلاد الرافدين، فعلى طينها خُطّ أول حرف وكُتبَتْ على بَرْديّها أول قصيدة ومن قصبها صُنعت أولى النايات وفي فضائها صدح أول لحن وانتشرت بذرة الأنغام في قيثارات الكاهنات السومريات.
تعد الأهوار العراقية كنزاً جمالياً واقتصادياً وسياحياً وبيئياً ومحمية طبيعية واسعة تقع في الجنوب العراقي على مساحاتٍ مائية شاسعة. ولم تشأ كل الحكومات المتعاقبة في حكم العراق أن تولي أي أهمية تُذكر لهذا المكان الحاضن لتلك الثقافات والجماليات والأساطير والمدونات الطينية الفذّة التي خلقت حضارتها الإنسانية منذ أكثر من ستة آلاف سنة وإلى اليوم.
الأهوار بذاتها أسطورة مكان مولود ليكون عراقياً كمهدٍ حضاري وصرح شاهق وجذور معرفية وحضارية أنجبت مجتمعاتٍ متطورة حافلة بالمعرفة وأصبحت مصدر إلهام الحضارة السومرية برمتها، ولذلك وإن جاء الوقت متأخراً لإدراجها على لائحة التراث العالمي أفضل من تركها لسياسات حكومات تتعاقب من دون أن ترى لهذا الأثر المكاني قيمة معنوية واعتبارية وتاريخية وإنسانية وثقافية.
ثقافة المكان بامتداداته الشاسعة وتعاقبات أزمانه الكثيرة أوصل لنا أول شاعرة في التاريخ وهي الأميرة الأكدية أنخيدوانا ابنة العاهل سرجون الأكدي التي تعد أقدم شاعرة حب وجنس وقد تركت مجموعة من التراتيل المعروفة بِـ”تراتيل المعبد السومري” مثلما أوضح لنا الباحثون، إن أقدم قصائد الحب في التاريخ تعود الى شاعرة سومرية اسمها بُلبالة التي كانت مطربة شهيرة في بلاطات المدن السومرية. كما لا يمكن لقارئ أن يتجاوز ملحمة جلجامش كأقدم أثر ملحمي في الوركاء لا يزال حتى اليوم يُقرأ ويُترجم على نطاق واسع في العالم.
وحينما تذكر الأهوار بوصفها المكاني التاريخي بتعاقب السلالات الحاكمة ومتغيرات الأحوال السياسية بين السومريين والأكديين والبابليين والكلدانيين ، ستقف كثيراً عند الاختراع السومري للكتابة المسمارية وإنشاء أولى المدارس التعليمية في بيوت الألواح الطينية، كما ستقف عند أسماء لا يمكن للتاريخ المعاصر إغفالها في شتى المجالات الأدبية والمعرفية والعلمية: نبوخذ نصر- حمورابي- أريدو- أور.. إلى منجزات معرفية هائلة في الهندسة والحساب والفلك والعلوم والأدب والملحمة.. وغيرها.
ثقافة الأهوار كمكان أسطوري قديم ألهمت كثيراً من المبدعين العرب والعراقيين سرداً وشعراً وبحثاً ودراساتٍ وتنقيبات أدبية لا حصر لها ، ونشير إلى رواية السوري حيدر حيدر “وليمة لأعشاب البحر” التي جعلت من الأهوار مكاناً لمساحته الروائية عدا العراقيين الذين اشتغلوا على هذا المكان بوصفه مكاناً سياسياً أيضاً لنشاط المعارضة في حقبٍ مختلفة من تاريخ العراق المعاصر.
كانت الأهوار الجنوبية في العراق مفتاح الحضارة القديمة التي انتشرت في العالم آنذاك واليوم تتبنى اليونسكو هذا الملف الحيوي فتدرجه على لائحة التراث العالمي عرفانا منها بتاريخية المكان وأهميته الكبيرة. إنها قصة حضارة عريقة بلا شك.
كاتب من العراق