زهير السعيد فنان بحريني التقط الحياة في لحظة إهمال

فنان الحياة البحرينية بين خيال الواقع وواقع الخيال.
الأحد 2021/10/31
زهير السعيد فنان يعيد تركيب ما تفكك من المواد في سياق خيال مختلف

في روايته “على الطريق” التي نشرت عام 1957 التقط جاك كرواك مواد الحياة الأميركية الحقة. هذا ما قاله وهو يقصد كل ما عاشه من تجارب وما رآه من مشاهد أثناء رحلة قام بها عبر المدن الأميركية. 

الفنان البحريني زهير السعيد يفعل الشيء نفسه وهو يلتقط الأشياء المهملة ويصور الوقائع الهامشية ويعيد تركيب ما تفكك من المواد في سياق خيال مختلف. 

حياة أشبه بالنبوءة

إنه فنان الحياة البحرينية الذي لا يقلدها، بل يعمل متأثرا بها من غير أن يسعى لأن ينافسها أو يدخل في سباق معها. كل ما يظهر في أعماله ينتمي إلى حياة تقع في جهة مجاورة. حياة يعيدنا النظر إليها إلى سلسلة الأخطاء التي نرتكبها في حق الطبيعة والبيئة. 

السعيد يربط بين موقفه الفني المتمرد وبين موقفه الاجتماعي النقدي، وهو في ذلك يتبع خطى واحد من أهم بناة الفنون المعاصرة هو الألماني يوزف بويس

يربط السعيد بين موقفه الفني المتمرد وبين موقفه الاجتماعي النقدي. وهو في ذلك يتبع خطى واحد من أهم بناة الفنون المعاصرة هو الألماني يوزف بويس. وهو في ذلك أيضا إنما يوفق بين محليته على مستوى المواد والأفكار والوقائع وعالميته على مستوى التقنيات والمفاهيم الفكرية.

فكرة السعيد عن العمل الفني لا تقع في محتواه المباشر بل في ما يشير إليه خفية كما لو أنه نبوءة. وبالرغم من الطابع الذهني الذي يضفيه على أعماله فإن النظر إليها لا يخلو من متعة. لا بسبب غرائبيتها الشكلية فحسب بل أيضا لأنها تنطوي على الكثير من المفاجآت الجمالية. 

يرسم ويصور ويجهز أعماله التركيبية بالمواد المستهلكة، وقبل ذلك كله يبحث في تاريخ الأشياء ويتنقل بين تقنيات سيُقال عنها إنها خارجة عن المألوف. ولكن ذلك الوصف لن يكون ملائما للعالم الذي لم يعد بريئا بالنسبة إلى الفنان. 

لا وجود لثنائية المألوف وغير المألوف في عالم السعيد. لا لشيء إلا لأن الفنان لا يتعامل مع الواقع باعتباره مرجعية ثابتة. وهنا يكمن سبب جوهري للغموض الذي يحيط بأعماله. وهو غموض مستلهَم من حكايات ملغزة ترافق الأشياء التي يستخرجها الفنان من عالم الغياب كونها قد ألحقت بالهامش بعد أن تم الاستغناء عنها إعلانا عن خروجها من دائرة الاستعمال أو المنفعة. 

في ذلك يخلص السعيد إلى الحقيقة التي تؤكد نزوع الفن إلى أن لا يكون نافعا بطريقة وظيفية. 

المسافة المفقودة 

معرضه “الموج الأسود” هو عبارة عن مرثية؛ فهو يرثي البحر الذي صار يابسة بسبب عمليات الطمر ويحلم في الوقت نفسه ببحر يغرق اليابسة ليعيد إليها هداياها المسمومة
معرضه “الموج الأسود” هو عبارة عن مرثية؛ فهو يرثي البحر الذي صار يابسة بسبب عمليات الطمر ويحلم في الوقت نفسه ببحر يغرق اليابسة ليعيد إليها هداياها المسمومة

ولد السعيد عام 1980. درس الفن التشكيلي في جامعة البحرين. اهتم في بداياته بتطوير أدائه الأكاديمي في الرسم ومن ثم انتقل إلى التجريب من خلال الأساليب الفنية المتاحة كالتعبيرية والسريالية، وأخيرا استقر عند حدود التجريدية مستعملا أسلوبا ينسجم مع طريقته في التفكير في الفن بعد أن انتقل بتجربته إلى عالم الفنون المعاصرة وبالأخص فن التجهيز والفن المفاهيمي. 

يسمي أسلوبه في الرسم بالمحو. وهو أسلوب يستند إلى مبدأي الإضافة والإزالة بحيث يبدو سطح اللوحة كما لو أنه تعرض لمؤثرات بيئية كالريح والغبار والصدأ والاندثار والمطر. الرسام هنا يمارس دور المتأمل المراقب لزوال الأشياء غير أنه لا يقف عند حدود ذلك الدور الحيادي بل يسعى لعرض وجهة نظره المضادة. تلك فكرته المستلهمة من الواقع والتي يمزج من خلالها الزمان بالمكان؛ الزمان الذي يعيد إنتاج المكان والمكان الذي يشهد على مرور الزمن.  

المحو في صيغته المضادة للجمال القائم على الانسجام هو أشبه بالصرخة التي يطلقها السعيد دفاعا عن انسجام كان قائما في لحظة ما

عالم السعيد يقوم أصلا على حقيقة أن التحول يصبح أحيانا دليل إدانة للإنسان بالرغم من أنه جزء من جوهر الوجود. من وجهة نظره -وهو مدافع أصيل عن البيئة- أن ما نشهده من تحولات بيئية هو شهادة صارخة تؤكد فقر الخيال البشري. 

المحو في صيغته المضادة للجمال القائم على الانسجام هو أشبه بالصرخة التي يطلقها الفنان دفاعا عن انسجام كان قائما في لحظة ما، غير أن سلوك الإنسان الذي ينطوي على الكثير من النفعية (الجشع ومن ثم الإهمال بعد الاستهلاك) قد أدى إلى إلحاق الضرر به، فصارت المشاهد عبارة عن نسخ ممسوخة ومشوهة من أصل تم تغييبه تحت طبقات من الدهان. 

يقع فن السعيد في المسافة التي تفصل بين الانسجام والتحول. غربة أعماله هي ذاتها غربته الإنسانية. علينا أن نبحث عن ضالة العمل الفني في تلك المسافة التي لن نتمكن من ضبط قياسها. والمعيار الوحيد الذي يعرفه الفنان هو أن الواقع لن يكون هو نفسه دائما. وهناك مَن قد يتصور أن أعمال السعيد واقعية أكثر مما ينبغي. 

الانتحال ما بين الخيالي والواقعي 

فكرة السعيد عن العمل الفني لا تقع في محتواه المباشر بل في ما يشير إليه خفية كما لو أنه نبوءة. وبالرغم من الطابع الذهني الذي يضفيه على أعماله فإن النظر إليها لا يخلو من متعة
فكرة السعيد عن العمل الفني لا تقع في محتواه المباشر بل في ما يشير إليه خفية كما لو أنه نبوءة. وبالرغم من الطابع الذهني الذي يضفيه على أعماله فإن النظر إليها لا يخلو من متعة

ذلك الأكثر مما ينبغي يضع عالم السعيد بين قوسي القسوة والجمال. يؤمن الفنان بالدور الاجتماعي الثقافي في حماية البيئة. ولكن ذلك ليس كل شيء. يبدو الكلام كله ناقصا من غير أن يحضر الإنسان. ذلك الكائن المذنب الذي سبق للسعيد أن وضعه في مواجهة البيئة من جهة إعادة إنتاجها محطمة وأسيرة.    

يقول السعيد “أحد أعمالي لم يكن سوى جذع شجرة وجدته ملقى وسط الطريق. قطعته إلى نصفين وشكلت منه عملا فنيا”، تلك فعلة تذكرنا بالفرنسي مارسيل دوشان (1887 - 1968) ومفهومه عن الفن الجاهز. كانت مبولته الشهيرة التي وقعها عام 1917 أشهر أعماله في ذلك المجال. التقط السعيد في معرضيه “على الطريق” اللذين أقامهما عامي 2015 و2018 أشياء كثيرة من الحياة المباشرة، بعضها يمكن اعتبارها موادّ جاهزة والبعض الآخر يدخل في باب الانتحال؛ انتحال الخيالي باسم الواقع وانتحال الخيال بذريعة الواقعي.

من خلال صوره الفوتوغرافية يوثق السعيد سيرة نزهته اليومية. وهي سيرة غرائبية بالرغم من أنها لا تخرج عن نطاق ما هو واقعي. تلك واقعية لا يرغب فيها دعاة الواقع المباشر. يرغب السعيد في أن يكون الواقع واقعيا بما يحقق صدمته. علينا أن نصدق أن في إمكان الفنان أن يعيد إلى الواقع رشده. تلك فكرة لن تنال استحسان الكثيرين. غير أن الفنان يفضل أن يكون معارضا صادقا على أن يكون مؤيدا منافقا. 

ما بين البحر واليابسة

أعمال السعيد واقعية أكثر مما ينبغي
أعمال السعيد واقعية أكثر مما ينبغي

“كن إيجابيا”، كان ذلك هو عنوان معرضه الذي أقامه عام 2013. استعار السعيد ذلك العنوان من الكاتب الأميركي وليام أرثر وارد. ولكن ما معنى أن يكون المرء إيجابيا؟ ذلك بحث يبدو جانبيا غير أنه في حقيقته يذهب إلى جوهر الإنجاز الشخصي. ذلك ما يمثل ضوءا وسط العتمة؛ عتمة العالم في مواجهة الضوء الشخصي.

تقول عبارة تقديم ذلك المعرض “إن أبواب الإنجازات تتسع لذلك الشخص الذي يرى في الأشياء التافهة إمكانيات غير محدودة” جملة تختصر الفلسفة التي يتبعها السعيد في فنه. فعالمه إنما يتشكل من مجموعة تلك الأشياء التافهة؛ خامات ومواد مهملة، قطع أخشاب مكسورة وجذوع أشجار وإعلانات وورق مقوى وكل ما يمكن أن تقع عليه العين واليد في الطريق. 

“أنا أجد ولا أخترع”، هل تُنسب تلك الجملة إلى بيكاسو؟ بالنسبة إلى السعيد تشكل تلك الجملة قانون خلق. معرضه “الموج الأسود” هو عبارة عن مرثية. فهو يرثي البحر الذي صار يابسة بسبب عمليات الطمر ويحلم في الوقت نفسه ببحر يغرق اليابسة ليعيد إليها هداياها المسمومة. هناك حرب خفية يديرها الإنسان. البحر هو ضحيتها المباشرة فيما تشكل اليابسة ضحية غير مباشرة. يمد الفنان يده إلى البحر فلا يلقى سوى موج أسود. تلك عتمة يضيفها الفنان إلى التاريخ البشري. هو فنان بحريني لكنه يقيم في نبوءة عالمية.  

9