زعماء وزعماء

شهر أبريل الماضي شهد قصة عجيبة وقعت في بلد عربي سعيد، بطلها أبو محمود وهو فلاح على باب الله، عصف الجفاف ببستانه، فماتت شجرات الكرز العشرون التي ظل يعتاش منها عمره كله، وما تبقى من تفاحاته غزتها ميليشيا تحمل أعلاما صفراء وقطعت أخشابها ليتدفأ عناصرها عليها في ليالي البرد. وحتى يستتب الأمن منعت الدولة التجول في بستانه والبساتين المجاورة فشمله الحظر فنهب العابرون ما تبقى من حطام السنين.
لم يعد لدى أبي محمود من باب للعيش سوى دراجته النارية العتيقة المهترئة قال لنفسه “أوصل بها الركاب مقابل ما يدفعون لي من مال الله مهما كان“. فعاش السنوات الماضية على هذه الدراجة، منها يأكل ويشرب ويطعم أولاده وزوجته. وذات صباح هرع ليحضّر دراجته لعمل هذا اليوم، فلم يجدها، تلفّت يمينا ويسارا ففهم على الفور أن اللصوص سرقوها، فخرّ على الأرض بعد أن ضربت جلطة قلبه المنهك.
عند هذه اللحظة دخلت النيوميديا والسوشال ميديا على الخط، وأخذ شباب القرية ينشرون البوستات والتغريدات لطلب المساعدة لأبي محمود من الجمعيات الخيرية والأثرياء، لعلهم يصرفون له مساعدة مالية عاجلة، فلم يستجب أحد.
كان الوقت يمرّ وقلب أبي محمود يهوي في قاع سحيق.
وحين انتشر الخبر بين الناس، اسودّت الدنيا في وجه الرجل الذي كبر عشرات السنين في يوم وليلة وابيض شعره كلّه حزنا وكمدا على الدراجة، قرّر تسليم أمره للموت، وأخذ يفكّر في تكاليف الجنازة. لكن مفاجأة حصلت.
في ظلام الليل استفاقت الأسرة على صوت يعرفونه جيدا، كان زئير الدراجة الذي طالما انتظروه، نظروا من النافذة فإذا باللصوص يحضرون دراجة أبي محمود ويعيدونها إليه، مع إيماءة من زعيمهم فهموا منها أنه يعتذر عما تسبّب به من ضرر للرجل الفقير وأسرته.
في ميزان الحق، بدت تلك العصابة من الحرامية أكثر شرفا من السياسيين ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات والجمعيات الخيرية وخزعبلاتها، ودون شك أكثر شرفا من الدولة العربية الحديثة التي لم تتمكن من حماية إنسانها لا من قليل ولا من كثير.
ورغم مرور نحو ثمانين سنة، كأن شيئا لم يتغير في قيم عميقة وثمينة عند الناس، حين أعلنت دمشق إضرابا ضد الاحتلال الفرنسي، بقيادة فخري بك البارودي، انضمت إليه شرائح المجتمع والتجار والنساء، إلا أن إحدى الجماعات طلب شيخها مقابلة البارودي وقال له إنه قرّر الانضمام إلى إضرابه، وحين قال له البارودي: من أنتم يا زعيم؟ قال له الرجل ”أنت زعيم الوطنيين وأنا زعيم الحرامية، ونحن قرّرنا التوقف عن السرقة والنهب والتشليح طيلة فترة الإضراب، فاتركوا المحلات مفتوحة ولا تبيعوا ولا تشتروا ونحن سنحميها“. فتأمّلْ.